-
I -
ما حدث في بنغازي خلال اليومين المنصرمين، لم يكن تطوراً
بسيطاً أو عابراً، وفق كل المعايير.
فهذه كانت المرة الأولى التي يتحرّك فيها شارع عربي على
هذا النحو ضد حركة أصولية سلفية لاتدّعي فقط الدفاع عن الدين والعادات النبوية، بل
هي تحمل أيضاً اسم "أنصار الشريعة" (بما يفترض ضمناً أن من يثور عليها يثور أيضاً على
الشريعة).
تظاهرة بنغازي ضد انصار الشريعة= الصورة من غوغل |
وهذه كانت المرة الأولى منذ اندلاع ثورات الربيع العربي التي
تصطدم فيها تيارات إسلامية تنتمي إلى السلفية والصوفية والمذاهب السنيّة الثلاثة
الشافعية والحنفية والمالكية.
ثم أن هذه أخيراً كانت المرة الأولى التي ترفع فيها
شعارات في وجه السلفية الانغلاقية من نوع:" بنغازي ستكون جحيماُ لأنصار
الشريعة"، و"لا للقاعدة، اذهبوا إلى أفغانستان". هذا في حين كان
آلاف المتظاهرين يتجرأون على تمزيق رايات "أنصار الشريعة" وهم يهتفون
"ليبيا، ليبيا".
-
II -
أسباب هذه الانتفاضة قد تكون عديدة ومتنوعة، منها تحوّل
ميليشيات بعض الحركات السلفية إلى عصابات مسلحة تعتاش على اقتصادات السلب
والغنائم، ومنها أيضاً الهجمات الأخيرة على الأضرحة والمقامات الصوفية التاريخية
التي يُجِّلها العديد من الليبيين.
بيد أن السبب الأهم الذي يهمنا هنا هو ذلك المتعلِّق
بعلاقة انتفاضة بنغازي بالصراع السياسي والفكري الذي فجرّه الربيع العربي في أوساط
الحركات الإسلامية على مختلف مشاربها.
صحيح أن كل هذه الحركات تبدأ بالمناداة بالإصلاح، إلا أن
هذه البداية قد تكون هي نفسها النهاية في ما يتعلق بالإجماع حول معنى هذا الإصلاح.
فثمة، على سبيل المثال أجنحة في حركات الإخوان المسلمين
في مصر وتونس، تُطل على الإصلاح من زواياه السياسية والاقتصادية، ولاتمانع حتى (كما
في حالة حزب النهضة التونسي) في رفع شعار الإصلاح الديني بهدف المطابقة بين
الشريعة وبين والحداثة والديمقراطية.
لكن، حتى في داخل حركات الإخوان المسلمين نفسها، ثمة
تيارات سلفية أو قطبية لاتفهم من الإصلاح سوى وضع الدولة في خدمة الإسلام، وترفض وضع
حصان الدولة المدنية الوطنية قبل عربة الدين، كما تطالب بـ"وصاية
الفقيه" (تيمناً على مايبدو بولاية الفقيه الإيرانية) على ممارسات الدولة
والمجتمع.
وفي الحركة السفلية انقسامات مماثلة. ففيها تيار التكفير
والتبديع والتفسيق الأكثر انتشاراً منذ قرنين في مملكة السعوديين والمتحالف من
الأسرة المالكة، الذي يرفض أصلاً أي مفهوم للإصلاح إلا إذا عنى تصفية كل مظاهر
الحداثة الفكرية والإعلامية والمادية. وهناك سلفية الصحوة (لسعودية أيضا)،
والسلفية الجهادية. كما هناك السلفية الفكرية أو الليبرالية التي ينتمي إليها
المثقفون الدينيون والمتسامحة نسبياً مع الفكر الآخر.
فضلاً عن ذلك، هناك الفكر والحركات الصوفية الأكثر
انفتاحاً من غيرها على كل التيارات الفكرية الإسلامية وغير الإسلامية، والأكثر
استعداداً لتقبّل فكرة فصل الدين عن السياسة.
-
III -
كل هذه الحركات كانت (عدا السلفية الانغلاقية السعودية
والأفغانية) نائمة، أو مختبئة في المساجد، خلال سيطرة الأنظمة السلطوية العربية
على الدولة، ولم تكن مضطرة إلى خوض الصراعات السياسية والفكرية بين بعضها البعض.
لكن الآن، وبعد تهاوي هذه الأنظمة ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر
وتونس (مع صعود مماثل وإن أقل للحركات السلفية)، فقد أُشرعت الأبواب على مصراعيها
أمام المسألة الكبرى: "أي إسلام نريد".
صحيح أن مرجعية كل هذه الحركات هي الشريعة بمقوماتها
الأربعة النص القرآني الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وإجماع الفقهاء، والقياس
أو الاجتهاد، إلا أن فهم وتفسير كل فرقة إسلامية للشريعة قد يختلف اختلافاً بيناً
عن فهم وتفسيرات الفرق الأخرى. هذا ناهيك عن أن العديد من السلفيين الانغلاقيين
والجهاديين والقطبيين يكفِّرون كل الفرق الأخرى، لا بل يكفِّرون حتى كل المجتمعات
والدول الإسلامية.
وإذا ما أضفنا إلى هذا الخليط المعقّد دور الجيوبوليتيك
الدولي والإقليمي، الذي سيلعب حتماً دوراً هائلاً في تحديد مصير، أو حتى توجيه
دفة، الصراعات داخل البيت الإسلامي (كما دلّ على ذلك بوضوح نجاح التهديد الاميركي
للرئيس مرسي مؤخراً بضرورة التصدي للمتطرفين الإسلاميين)، فإننا سنصل سريعاً إلى
الاستنتاج بأن المنطقة العربية مقبلة في قادم الأيام على تمخضات إسلامية- إسلامية
حادة وعنيفة، وربما في بعض الاحيان دموية.
وهذه المتخضات ستستمر طالما لم يم يتحقق إجماع في صفوف
الحركات الدينية على أنواعها حول "أي إسلام نريد".
شعب بنغازي حدد بوضوح نسبي "أي إسلام يريد":
ذلك المعتدل، الرافض للتطرف، والمنفتح على العصر والحداثة.
وإذا ما كان ذلك أيضاً هو موقف باقي الشوارع العربية،
فهذا يجب أن يدق أجراس الإذار للحركات السلفية الإنغلاقية، الرافضة للمصالحة بين
الشريعة وبين الحداثة والديمقراطية.
سعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق