-
I -
كيف يمكن لفيلم سخيف، وتافه، وبائس، كذلك الذي عُرِض قبل
أيام في الولايات المتحدة وعلى اليوتيوب تحت عنوان "محمد نبي الإسلام، أن
تكون له كل هذه المضاعفات الكبرى الفكرية والثقافية، وربما حتى الاستراتيجية في
العالم الإسلامي؟
ثورة العلم في العصر العباسي- اللوحة من غوغل- |
سنرجىء الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية المحتملة، التي
ترتبط أساساً بالعلاقات بين أنظمة الربيع العربي وبين الولايات المتحدة (التي
لعبت، كما هو معروف، دور بيضة القبان في انتصار ثورات هذا الربيع)، إلى الغد. أما
اليوم، قد يكون التحليل البارد والموضوعي ضرورياً لفهم دوافع ومبررات هذا الرد المُلتهب
في مصر وليبيا وتونس وبقية الدول على هذا الفيلم.
-
II -
أول مايتبادر إلى الذهن هنا هو أزمة الهوية الإسلامية،
أو بالأحرى الخوف المَرَضِي على هذه الهوية، التي يعاني منها الملايين في العالم
الإسلامي. فهؤلاء يشعرون بأن العصر الحديث (بكل مايتضمنه من عولمة اقتصادية، وثورة
معلومات واتصالات، وتقينات التواصل الاجتماعي، وفضائيات من كل الأنواع والألوان)،
يكاد ينسف كل مقومات ثقافاتهم التاريخية وعاداتهم الموروثة، ويفكك ماتبقى من تماسك
اللحمة الاجتماعية في بلدانهم.
أوروبا مرّت بمثل هذه التجربة مع الثورة الصناعية الكبرى
في القرن التاسع عشر، التي انتجت هي الأخرى ردات فعل دينية عنيفة، ترجمت نفسها في
خاتمة المطاف في بروز حركات هوية دينية متعصبة أولاً ثم أحزاب مسيحية ديمقراطية. وقبل هذه الثورة، كانت أوروبا تعيش قروناً وسطى
غاية في الظلمة والعنف والاستبداد الديني، بسبب سيطرة الأصوليين العُصابيين على كل
الفكر والثقافة والسياسة فيها تحت شعار الحفاظ على الهوية المسيحية. ولم تخرج
القارة العجوز من هذا النفق إلا مع بزوغ عصر الأنوار في القرن السادس عشر، الذي
بلور هوية أوروبية جديدة تم في إطارها "ترويض" الغرائز الدينية العصابية
لصالح الحرية والتسامح والعقلانية.
-
II-
العالم الإسلامي (مع استثناء تركيا واندونيسيا وماليزيا
منه) يعيش الآن أزمة هوية طاحنة مماثلة. فهو يبحث عن صيغة توفِّق بين متطلبات العصر
الحديث المتسارعة، وبين معطيات موروثه الثقافي والفكري الذي أمَّن له على مدى قرون
مديدة التوازن النفسي المطلوب.
حتى الآن، لم يتم العثور على مثل هذه الصيغة السحرية.
وهذا ما يجعل أجزاء واسعة من العالم الإسلامي أشبه بالمراهق العالق بين طفولة يسعى
للخروج منها وبين نضج لايستطيع الدخول إليه. أو ربما هي أشبه ببرج المراقبة في
المطار الذي يتلقى إشارات عديدة متضاربة من الطائرات، فسيُصاب مديروه بالشلل أو
الانهيار، أو العصبية الفائقة.
هذه الحالة، التي تتسم عادة بعدم الثقة بالنفس، والقلق
من المتغيرات المتسارعة في العالم، والخوف من تفكك الهوية، ربما تفسِّر أسباب ردات
الفعل العنيفة في العالم الإسلامي هذه الأيام على أي انتاج يهاجم أو ينتقد أي رمز
من رموز الإسلام، خاصة الرسول (صلعم). هذا في حين كان المسلمون طيلة حقبات ازدهار
حضارتهم العظيمة منذ أيام الامويين والعباسيين، مروراً بالحقبة الصليبية، وإلى حين
بروز الفكر الإسلامي الانغلاقي أولاً مع الإمام الغزالي (تهافت الفلاسفة) ثم مع
ابن تيمية، يستهزأون بآلاف الأطنان من الكتب والمطبوعات التي كانت تُنشر في الغرب
الأوروبي، والتي كانت تكيل أقذع الشتائم للنبي محمد وأشد التهم للإسلام (دين السيف
والعنف والشبق الجنسي).
المسلمون قبل ألف سنة كانوا يفعلون ذلك لأن ثقتهم
بحضارتهم وأنفسهم ودينهم كانت كاملة وناضجة. ونموذجهم آنذاك كانت قصة النبي محمد
مع ذلك اليهودي في المدينة المنوّرة الذي كان يتقصّد رمي قمامته قرب باب منزله،
فلا يقابل محمد ذلك سوى بابتسامة معبِّرة (هي رمز الثقة بالنفس وبالهوية). وحين
غابت القمامة لثلاثة أيام متتالية، توجّه النبي إلى منزل اليهودي بنفسه قائلاً له
أن غياب القمامة جعله يقلق على صحته، وعرض عليه أي مساعدة.
-
III -
الآن، إذا ما
اتفقنا، عزيزي القارىء، على صحة هذا التحليل، سنكون معاً في موقع يمكننا ليس فقط
من تفهُّم أسباب ظواهر العنف المرافقة مع تفاهات الشتائم، بل أيضاً من تلمس طبيعة الحلول
التي تحتاجها المجتمعات الإسلامية. وهذا لن يكون صعباً إذا ما استعنّا بتاريخ
الحضارة الإسلامية (خاصة خلال الخلافة العباسية) التي تتلخّص في التالي: إطلاق
حرية الفكر والاجتهاد، منح الأولوية للعلوم والتكنولوجيا (العرب هم الذين اخترعوا
علوم الجبر والكيمياء والطب والتشريح وطوروا علم الفلك)، وإقامة نظام اقتصادي متطوِّر
يستند إلى العدالة الاجتماعية.
وحين نفعل ذلك،
لن تكون ردة فعل أي مسلم على توافه على غرار الرسومات الكاركاتورية الدنمركية
والفيلم عن النبي، أكثر من تكرار تلك الابتسامة التي كانت ترتسم على وجه النبي،
والتي كانت تلخّص برمشة عين كل فلسفة الحياة والوجود، وكل عظمة الحضارة الإسلامية.
* * *
ماذا الآن عن
الأبعاد الاستراتيجية لأحداث بنغازي والقاهرة؟
(غدا نتابع)
سعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق