(ينشر هذا المقال اليوم في موقع سويس انفو)
بنيامين نتنياهو على حق: زيارته الأخيرة إلى واشنطن
وخطابه أمام مجلسي الكونغرس الاميركي، كانا
بحق "مصيريين وتاريخيين" وفق كل المعايير.
هما مصيريان، لأنهما دشنا معركة سياسية ضخمة بين
الليكوديين الإسرائيليين والجمهوريين الأميركيين (شبّهها جون كيري بـ"مباراة
كرة قدم سياسية كبرى") حول الاتفاق النووي مع إيران. معركة ينتظر أ ستستخدم
فيها كل أنواع الاسلحة الفتاكة الاعلامية والاديولوجية وحنى الدينية.
خطاب نتنياهو أعلن رسمياً بدء هذه المعركة. لكن مجلس
الشيوخ الجمهوري كان سبقه إلى تدشين هذه الحرب، حين صادق على مشروع قانون يتيح
للكزنغرس "مراجعة أي إتفاق" مع إيران في غضون خمسة أيام من إبرامه. كما
يمنع أوباما من إلغاء أو تجميد العقوبات التي أجازها الكونغرس على طهران لمدة ستين
يوماً بعد التوصل إلى اتفاق. وكل هذه إجراءات رفضها الرئيس أوباما وأكد أنه
سيستخدم حق النقض (الفتيو) ضدها. ثم أتبع ذلك بنشر مقابلة مع وكالة رويترز، عشية
خطاب نتنياهو، شن فيها حملة عنيفة على هذا الأخير واتهمه بتجاوز البروتوكول بين
الدول وباستخدام خطابه لخدمة معركته الانتخابية داخل إسرائيل.
أما تاريخية الزيارة والخطاب، فيكمنان في مكان بعيد
يبتعد كثيراً عن "الحياة اليومية" للشرق الأوسط الراهن، ويتعلقان بالبون
الذي بات شاسعاً بين إسرائيل والولايات المتحدة (أو على الأقل بين الليكوديين
والبيت الابيض الديمقراطي) حيال هذا الاتفاق.
فإسرائيل تخشى أن تؤدي الصفقة النووية إلى مجرد
تأجيل حصول إيران على القنبلة النووية، مع إسباغ الشرعية الدولية على برنامجها
النووي. وهذا سيقود في نهاية المطاف إلى كسر احتكار إسرائيل لسلاح يوم الآخرة
(يقال أنها تملك 300 قنبلة نووية "في القبو") في الشرق الأوسط، وبالتالي
إلى سقوط خط الدفاع العسكري الأخير عن الدولة العبرية. هذا في حين أن الولايات
المتحدة لايهمها كثيراً في الواقع حتى لو امتلكت إيران للقنبلة، لانها قادرة في
أية مجابهة على محو إيران عن وجه البسيطة في غضون 20 دقيقة لا أكثر.
مابعد النووي
البُعد النووي من الصراع موجود إذا. لكنه ليس في الواقع
كل شيء. ماوراء هذا البُعد هو الأهم.
كيف؟
هنا، يقفز أمام أعيننا مباشرة المشهد التاريخي بجلاء.
فتل أبيب تدرك أن إدارة أوباما تريد إبرام الاتفاق بأي ثمن، ليس فقط لأن أول رئيس أميركي إفريقي
يريد أن يختم ولايته بإنجاز دبلوماسي كبير في السياسة الخارجية، يقارع الانجاز
الذي حققه الرئيس نيكسون في الستينيات حين أخرج الصين من الفلك الشيوعي وضمها
بالتدريج إلى المملكة الرأسمالية، بل أولاً وأساساً لأن المؤسسة الاميركية تريد أن
تكون الصفقة مع إيران بداية تحوّل استراتيجي كبير لتوجهاتها في الشرق الاوسط وقارة
أوراسيا.
محور هذا التغيير: إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، بحيث
تتمكن الولايات المتحدة من تخفيف أعبائها ومسؤولياتها فيها من دون المس بمصالحها
الأساسية، ثم لنقل مركز الثقل في نشاطاتها إلى منطقة آسيا- الباسيفيك التي باتت
عملياً، المركز التجاري والاقتصادي والعسكري الأول في العالم بدل أوروبا، وذلك للمرة
الأولى منذ خمسة قرون.
وهذا يتطلب، من ضمن مايتطلب، الاعتراف بالادوار
الإقليمية للعناصر الرئيسة في هذه المنطقة، والتي شكّلت كل أنظمة الشرق الأوسط
السابقة في التاريخ: الإيرانيون والأتراك والعرب، وفي الدرجة الثانية اليهود
والاكراد والمسيحيون وباقي الاقليات.
لكن هذا بالتحديد ماتخشاه إسرائيل، لأنه سيعني
ببساطة تقويض النظام الإقليمي السابق الذي أقيم غداة الهزيمة العربية في حرب 1967،
والذي رسّخ السيطرة شبه المطلقة لإسرائيل على نظام الشرق الأوسط برعاية أميركية
ومباركة (آنذاك) من تركيا الاتاتوركية التي كانت تدير الظهر لكل ماهو شرقي، ومن إيران
الشاهنشاهية التي قبلت أن تصدر قواعد نفوذها الإقليمي من تل أبيب وواشنطن، ومن مصر
الساداتية التي وافقت على الانكفاء بعد معاهدة كامب ديفيد 1979 لصالح الهيمنة
الإسرائيلية.
كل هذا الصرح، النووي والاستراتيجي، سيكون عرضة إلى
الانهيار، في حال تم التوصل أواخر هذا الشهر إلى اتفاق بين القوى الخمس زائد واحد
وبين إيران، ما سيؤدي في الواقع إلى تسديد ضربات قد تكون قاتلة للمشروع الإسرائيلي
في حلّته الصهيونية، الذي استند بقضه وقضيضه إلى فكرة تفرّد الدولة العبرية
بالتفوق العسكري والاستراتيجي والاقتصادي الاسرائيلي المطلق، في إطار
"امبراطورية" حقيقية تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
وهذا ما قد يفسِّر جانباً من الهستيريا الحقيقية
التي تنتاب العديد من الدوائر الحاكمة في إسرائيل. فما هو على المحك لايقل عن كونه
تغيير كل البنية الاستراتيجية التي انبثق من ثناياها جل مشروع الدولة اليهودية
العام 1948، لكن بخاصة العام 1967. كما أنه يفسّر أسباب عدم قدرة النخبة الحاكمة
الاسرائيلية على ابتلاع فكرة الجلوس إلى طاولة واحدة على قدم المساواة مع القوى
الإقليمية الإيرانية والتركية، التي تطالب الآن بحصة واضحة من الكعكة الشرق
أوسطية. إذ أن ذلك سيقلص حجم الدولة العبرية إلى مجرد قزم ديموغرافي وسط عمالقة
إقليميين.
إلى أين؟
لكن، ما آفاق هذه المعركة الكبرى؟
الاعتبارات كثيرة هنا، ومعها الأسئلة المحورية:
- هل المؤسسة الاميركية منقسمة بشكل حاد
بالفعل حيال مسألة إعادة ترتيب نظام الشرق الاوسط لتسهيل الانطلاقة الجديدة في
رحاب آسيا- الباسيفيك، أم أن هذه مجرد مناورات جمهورية لاستعادة البيت الأبيض من
الديمقراطيين؟. بكلمات أوضح: هل سيعمل أي رئيس جمهوري جديد على بث الروح مجددا في
النظام الاقليمي الإسرائيلي – الاميركي، وإدارة الظهر للقوى الإقليمية الجديدة
الصاعدة، على رغم أن ذلك قد يكلّف الولايات المتحدة غالياً ويضعها عملياً في
مواجهة عالم إسلامي سبق لزبغنيو بريجينسكي أن حذّر (في كتابه "رؤية استراتيجية
جديدة") من أنه قد يقوّض الزعامة الاميركية في العالم؟
- وهل النخبة الإسرائيلية، بيمينها
ويسارها، موحّدة حقاً وراء معركة "كسر العظم" التي يخوضها نتنياهو مع
إدارة أوباما، أم أن تردد أجهزة المخابرات الإسرائيلية في دعم هذا الاخير مؤشر على
وجود اتجاهات واقعية ما بينها؟
- ثم: أين الحرس الثوري والقوى
الإديولوجية الإيرانية المتطرفة من آفاق الصفقة المحتملة مع الغرب. هل سيقبل هؤلاء
الثمن المؤكد الذي يجب أن يدفعونه مقابلها، وهو التخلي عن الثورة لصالح الدولة،
وعن القرآن والإديولوجيا لصالح السوق الرأسمالي العالمي؟
هذه الأسئلة، وربما
غيرها الكثير، ستطل برأسها خلال الايام والأسابيع القليلة المقبلة، وستكون
إطلالتها حادة لأن ماهو في الميزان مصيري بالفعل، وتاريخي بالفعل، وسيعيد تركيب
بنية الشرق الأوسط برمتها.
سعد محيو- بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق