-
I -
ثمة حقيقة كادت تغيب في خضم الضجيج الهائل الذي رافق الصفقة النووية الإيرانية- الغربية: إيران
بدأت رحلتها نحو الغورباتشوفية. إنها لم تصل إليها بعد، لكنها تحث الخطى نحوها.
للتذكير: الغورباتشوفية كانت المرحلة الانتقالية المؤلمة
التي شهدت تحوّل الاتحاد السوفييتي إلى دولة روسية "عادية" (أي غير
ثورية وغير مراجعة)، تجهد لمغادرة ملكوت الإديولوجيا إلى مملكة النظام الرأسمالي
العالمي.
الرئيس حسن روحاني هو الآن مشروع غورباتشوف الإيراني.
لكنه ليس وحده. معه مرشد الثورة خامنئي، الذي قرر هو الآخر أن الوقت حان للمصالحة
مع "الشيطان الأكبر". وهذا لسببين:
الأول، أن العقوبات الدولية، ومعها سياسات الرئيس أحمدي
نجاد الاقتصادية الشعبوية، والأكلاف الباهظة للسياسة الخارجية الإيرانية في سورية
وبقية المنطقة، دفعت الاقتصاد الإيراني إلى شفير الهاوية، ماهدد بإشعال ثورة
اجتماعية- سياسية كبرى إذا ما استمر حبل البطالة والتضخم والركود على الغارب.
والثاني، أنه حدث بالفعل تغيّر حقيقي في عهد إدارة أوباما
في التوجهات الأميركية في الشرق الأوسط: من التورط المباشر لأميركا في صراعات
المنطقة كقوة إقليمية عظمى مثلها مثل أي قوة إقليمية أخرى، كما كان الأمر منذ عهد
الرئيس كارتر ومابعده، إلى إعادة التموضع الاستراتيجي بهدف التركيز على الوضع
الداخلي الأميركي ومنطقة آسيا- الباسيفيك.
هذان العاملان تقاطعا بشكل نادر في التاريخ، ودفعا
خامنئي إلى "تجرُع سم" الدعوة إلى وقف إطلاق النار مع الشيطان الأكبر،
تماماً كما تجرّع قبله الإمام الخميني سم قبول وقف إطلاق النار مع عراق- صدام
حسين.
لكن، هل تنجح الغورباتشوفية في شق طريقها في إيران، عبر
انتقال النظام إلى عملية إصلاحات اقتصادية وسياسية داخلية بدل استنزاف الموارد في
السياسة الخارجية؟
-
II -
ثمة أمور كثيرة يجب أن تحدث هنا، قبل أن ترى الغورباتشوفية
الإيرانية النور، أبرزها "استسلام" غلاة الحرس الثوري وباقي المتشددين
الإديولوجيين لفكرة تحوّل إيران إلى دولة "عادية" تقبل كل شروط العولمة
الأميركية ومستلزماتها. وهذا يعني في الواقع تغيير النظام الإيراني بالتدريج عبر
الطرق السلمية الناعمة، لا بوسائل الحرب الصلبة. وجنباً إلى جنب مع هذا الاستسلام،
سيكون على الملالي، بالتدريج أيضاً، تقبّل الفكرة بأن ما يمكن أن يقبل به
الأميركيون من نفوذ إيراني في الشرق الأوسط، يجب أن يكون مقنناً للغاية ويأخذ في
الاعتبار الحصص الكبرى للقوى الإقليمية الأساسية الأخرى كإسرائيل والسعودية وتركيا
وإلى حد ما مصر، ناهيك بالطبع عن الحصة الكبرى الأميركية.
أميركا- أوباما تبدو مستعدة لاسقاط شعار تغيير النظام
الإيراني بقوة العقوبات الاقتصادية والحصار الدبلوماسي والتهديد بالتدخل العسكري.
لكن سيكون على إيران- خامنئي أن تكتفي بهذا القدر من التنازلات الأميركية وتعمل
على تغيير نظامها بنفسها في الداخل والخارج. في الداخل: عبر منح الأولوية للبناء
الاقتصادي الداخلي وفق قوانين منظمة التجارة العالمية و"إجماع واشنطن".
وفي الخارج: من خلال التخلي عن الطموحات الامبراطورية الفارسية التي اثبتت تجارب
العقود الثلاثة الماضية أنها لم تؤد سوى إلى استنزاف الموارد الإيرانية المحدودة
(موازنة "السي. أي. آي" تفوق كل موازنة الحكومة الإيرانية، أي نحو 75
مليار دولار)، وإلى التمدد الاستراتيجي الإيراني الزائد.
وبالمناسبة، هذا بالتحديد مافعلته دولة كبرى كالصين، حين
قبلت الشرط الأميركي الرئيس لإدماجها في النظام الرأسمالي العالمي، وهو التركيز
على الشأن الاقتصادي وتناسي النفوذ الإقليمي والدولي.
والآن جاء الدور على إيران وعليها أن تختار وسريعا.
فالمهلة المحددة لها لتحقيق التغيير في نهجها الخارجي، وليس فقط النووي، لاتتجاوز
الأشهر الستة، كما توضح بجلاء مواقف إسرائيل ومعها حليفها الأكبر الكونغرس.
فهل ستكون طهران قادرة على تحقيق إجماع قومي على بدء
رحلة تنازلات لاتنتهي للولايات المتحدة، كي تغادر سجن الحصار والعقوبات؟
هذا هو السؤال الأهم الذي يجب أن يجيب عليه الداخل
الإيراني خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة. فلكي تنجح العلاقات الثنائية
الإيرانية- الأميركية وربما تتحوّل أيضاً إلى حلف جديد بين الطرفين، يجب أن تقبل
طهران بوجود إسرائيل كأمر واقع، وتتوقف عن استخدام حزب الله كورقة ضغط عسكرية على هذه
الأخيرة. كما يجب عليها أن تبدأ رحلة التخلي عن الرئيس السوري بشار الأسد في مقابل
بروز نظام جديد يتضمن الاعتراف بـ"مصالح" إسرائيل والسعودية وتركيا في
بلاد الشام، إلى جانب مصالحها. وأخيراً، سيتعيّن عليها أن تقبل إعادة النظر في
وضعية النظام العراقي الراهن، بما يكفل أيضاً مصالح السعودية وتركيا (وإسرائيل في
شمال العراق).
كل هذه ستكون خطوات لامهرب منها لانجاح "الصفقة
الكبرى" مع الشيطان الأكبر بعد ستة أشهر أو سنة من الآن، علاوة على نجاح
المفاوضات النووية. وكلٌ من هذه الخطوات تعني أمراً واحداً: خلع إيران ردائها
الإديولوجي، كما فعلت روسية حين تخلت عن صبغتها الإديولوجية الشيوعية، وكما فعلت
الصين حين اسقطت الماوية لصالح الدنغية، وبدء العمل على تغيير نظامها بنفسها كي
تكون "جديرة" بالدخول إلى نادي النظام الرأسمالي العالمي.
-
III -
هذا قد يكون المضمون الحقيقي للصفقة النووية الإيرانية-
الغربية. أما الباقي فتفاصيل، على رغم كل
الصرخات المدوية عن كوندومينيوم (حكم مشترك) إيراني- أميركي زاحف في المنطقة. وهذا
بالتحديد ما فهمته مؤسسة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي عارضت كلياً موقف
نتنياهو الرافض للصفقة النووية، واعتبرت هذه الأخيرة "خطوة إيجابية
ومفيدة".
وسيكون علينا في مقبل الأيام أن نراقب كيف ستقوم إيران
بهذه النقلة الصعبة والمريرة، وبأية تكاليف؟ وهل ستكون قادرة على الحفاظ على
تماسكها الداخلي، أم تؤدي الصراعات حول شروط الشيطان الأكبر إلى تصدُّع النظام من
داخله، أو حتى ربما إلى تصدع إيران نفسها (كما حدث في الاتحاد السوفييتي) تحت وطأة
ضغوط الخيارات التاريخية الصعبة.
سعد محيو
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق