كيف نخرج من الجحيم الأرضي؟
- I -
تساءلنا بالأمس: كيف الخروج من "الجحيم الأرضي"؟
ثمة طريقان: أحدهما مستحيل والآخر لامفر منه.
الطريق الأول هو الخلاص الفردي، أو القومي، أو حتى الإقليمي. وهو كان ممكناً
في الماضي القريب والبعيد، لكنه بات مستحيلاً الأن بعد أن استحال العالم إلى ما
يشبه خلية نحل واحدة. فالروابط بين التغيرات فيه بات متشابكة إلى الدرجة التي لم
يعد في المقدور معها تمييز ماهو محلي فيه بما هو عالمي، وماهو فردي بما هو جماعي.
وهذا على كل المستويات: الاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والديموغرافية،
والثقافية التي تحدد نمط وجودنا اليومي على هذا الكوكب.
والطريق الثاني، القائم على الخلاص العالمي الجماعي، لم يعد ثمة مفر منه
ليس للأسباب أعلاه وحسب، بل أيضاً لأن نمط حياتنا اليومية سيقرر مصير الوجود
البشري نفسه، وربما ديمومة الحياة نفسها على الأرض. وهنا نقصد بالطبع التأثّر
المشترك لكل الدول والأمم والقارات بظاهرة تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض.
لكن، ما الشكل المُحتمل لهذا النوع من الخلاص؟
إنه ذاك الذي يستند إلى الإفادة من كل سقطات الجنس البشري، منذ بدء تأريخ
الحضارات قبل عشرة آلاف سنة إلى "نهاية التاريخ" في القرن الحادي
والعشرين.
وهي، بالمناسبة، سقطات مريعة.
فقد فشل معظم الحضارات في إقامة التوازن الدقيق والمطلوب بين المادة
والروح، وبين المصالح والقيم، وبين الفردي والجماعي. وهذا انطبق على الحضارات
الشرقية التي غلبّت كفة الروحانيات على المادة فخسرت في العصور الحديثة لعبة
موازين القوى. كما انطبق على الحضارات الغربية التي تسربلت حتى النخاع بالنزعة
المادية فخسرت روحها.
- II -
وما جرى على مستوى الحضارات، سرى على جبهة الإديولوجيات.
فـ"الاشتراكية العلمية"، التي علّق عليها الكثيرون كبير الآمال
بأن تُنهي الحروب وتؤسس لنهاية تاريخ حقيقي، اسقطت من اعتبارها الجوانب الإيجابية
في كلٍ من التجربة الرأسمالية ( الديمقراطية) والحضارات الشرقية (الروح)، فسقطت في
لجج الديكتاتوريات على أنواعها.
والرأسمالية الليبرالية، وعلى رغم أنها نجحت في امتحان النمو الاقصادي
والهيمنة (بدل السيطرة) الثقافية والفكرية، تسير الآن على الطريق نفسه الذي سبقته
إليها الاشتراكية: ديكتاتورية السوق الأعمى والتدمير التدريجي للديمقراطية.
ثم جاءت السقطة المريعة الأخرى، حين حوّلت القوى الرأسمالية الثورة الكبرى
في مجالي البيوتكنولوجيا وتقنية الاتصالات، إلى وسيلة لإغناء الأغنياء وإفقار الفقراء. وهكذا قسمت
العالم برمته إلى قسمين: قسم لايتجاوز عدده الستة آلاف شخص يقوم على خدمتهم 20 في
المئة من المجتمع، ويسيطرون وحدهم على كل مفاتيح هذه التكنولوجيا واستهدافاتها.
وفريق يشمل ثلاثة أرباع البشرية يتم طرحه الآن بوحشية على ناصية التاريخ.
وبالطبع، لايجب أن ننسى الكارثة البئيية التي ولدت أساساً في حضن فكر مادي
بحت، يرى إلى الطبيعة بوصفها بقرة يجب تقطيع أوصالها، لا أمّاً رؤوم يتعيّن الحنو
عليها والتأقلم مع قوانينها.
أضف إلى ذلك ما أشرنا إليه بالأمس من تحوّل كل الأديان من نزعات روحية-
أخلاقية إلى إيديولوجيات مغلقة لا تستولد سوى الهويات القاتلة والحروب.
هذه هي المعاصي الكبرى التي وقع فيها الجنس البشري. وهي تتشابك الآن للمرة
الأولى في التاريخ مع بعضها البعض لتشكل تهديداً مباشراً لوجود هذا الجنس نفسه.
ولكي نطرق طريق الخلاص، علينا أن نعمل معاً لنحل كل هذه الرزايا معاً، عبر
الانتقال من "صراع البقاء" إلى "صراع النقاء".
ماذا يعني ذلك؟
- III -
إنه يعني، ببساطة، أننا يجب أن نعيش "موسم الثورة العالمية".
الثورة على ماذا؟
على كل شيء، وفي كل شيء:
على ذاتنا البشرية، في المرتبة الأولى، التي آن لها أن
تُغادر ذهنية صراع البقاء العنيف، هذا الصراع الذي حوّل تاريخ الإنسان إلى سجل
جرائم متصلة، بعد أن انتفت الحاجة إليه. البشر لازالوا يعتقدون
أنهم يعيشون في العصر الحجري حيث الحيوانات الضارية والمفترسة، والبرد أو الحر
القاتلين، والندرة في المأكل والمشرب. وهذا مايدفعهم إلى وضع صراع البقاء أو البقاء للأصلح (Survival of the fittest) على رأس جدول أعمالهم.
الظروف الخارجية تغيّرت كلياً، لكن الساعات البيولوجية لأدمغتنا لاتزال
متوقفة عند السنة المليون قبل الميلاد. هذا بالطبع عدا قلة قليلة كانت هي الناجية
من هذا الجحيم الأرضي، لأنها اكتشفت أنه لايتعيّن عليها لكي تحصل على الخبز
والسعادة أن تخوض الحروب الضروس، أو تنغمس في لجج الأحقاد الاجتماعية القاتلة.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية، قج تكون الأهم، هي ضرورة تشكيل كتلة تاريخية كبرى جديدة
تمهد الطريق أمام "أرض جديدة" و "حياة جديدة" و"مجتمع
إنساني جديد"، ويتم في إطارها الخروج من "جهنم" إلى
"الجنة". أي:
- من الصراعات والقتل الجماعي والدمار إلى السلام والتضامن والتعاون؛
- ومن إعلان الحرب على أمنا
الطبيعة إلى عودة الاندماج
معها والاتصال الوثيق بها؛
- ومن تسييد نزعة التنافس الضاري
والاستهلاك المنفلت من عقاله والنمو الاقتصادي المدمر لتوازنات البيئة، إلى مجتمع
التعاون ووضع النمو في خدمة البيئة لا العكس، والمساواة وسد الفجوة الهائلة من
القلة الغنية والكثرة المفقرة؛
- ومن الفلسفة المادية الفردية القاتلة لكل روح، إلى فلسفة وحدة الوجود
التي تعيد تصويب مسار الحضارة الإنسانية وتضع البشر في موقعهم الطبيعي كجزء بسيط،
مجرد جزء بسيط، من وجود حيث الكل فيها واحد، والجزء موجود في الكل والكل موجود في
كل جزء. وهذا مايسمى الآن في العلوم الفيزيائية الحديثة " الكون
الهولوغرامي".
- ومن عولمة الرأسمالية المتوحشة إلى عولمة إنسانية جديدة، اشتراكية
وديمقراطية في آن.
من هم المرشحون لهذه الكتلة التاريخية؟
إنهم كل الأطراف التي ترفض النظام العالمي الراهن، والفلسفة المادية
الحالية، وتدعو إلى إنقاذ الحياة على كوكب الأرض من الأنقراض. وهي تشمل: الحركات
البيئة والإيكولوجية، والمنظمات الاشتراكية الديمقراطية الجديدة خاصة في أميركا
اللاتينية، وحركات السلام، وأنصار "الأرض الجديدة" الداعين إلى بناء وعي
إنساني جديد ومتجاوز، والعلماء الرافضين لنظرية النمو الرأسمالية ولتحويل هذه
الأخيرة التكنولوجيا والعلم إلى أداة لأخطر قسمة في التاريخ البشري بين "جنس
جديد" متجاوز للإنسان بفعل زواج البيولوجيا والتكنولوجيا وبين غالبية البشر،
وأنصار الفلسفات الشرقية والحركات الصوفية النقية الداعين إلى وقف الانقسام المدمر
(في العقل البشري) بين المادة والروح.
توحُّد هؤلاء في مشروع حضاري جديدة، وحده القادر على إنقاذ الجنس البشري من
الانقراض، أو على الأقل إخراجه من أتون الجنون الجماعي الراهن الذي يعيشه حاليا.
لكن، هل هذه الكتلة قابلة للولادة حقا؟
حسنا. في القرن الماضي كان الكثير من المفكرين اليساريين يرفعون الشعار:
إما الاشتراكية أو البربرية. لكن الآن بات الشعار أكثر خطورة بكثير: إما
"الأرض الجديدة" او الحضارة الجديدة، أو الانقراض.
وعلى البشر أن يختاروا الآن، وبسرعة.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق