-
I -
أكثر مايُقلق في تطورات مصر ليس فقط السرعة التي يُعيد
بها النظام الأمني- العسكري إعادة إنتاج
نفسه بزخم غير مسبوق، بل أيضاً المناخ الشعبي والسياسي الذي يبدو أنه يرقص بحماسة
على طبول هذه الولادة الجديدة للسلطوية.
وهذا يقلب الآن كل مقاييس ثورة يناير رأساً على عقب.
فالحرية، التي كانت أنشودة الملايين في ميدان التحرير
وكانت وراء إطلاق سمة الربيع على هذه الثورة، غابت عن الأنظار وحلّت مكانها شعارات
حصانة "الرموز" التي ليست شيئاَ آخر سوى القيادات العسكرية- السياسية
الجديدة.
والديمقراطية، التي كان يجب أن تحل مكان السلطوية
المباركية، باتت في عهدة محاكم عسكرية ومدنية تسلِّط سيف ديموقليطس القمع والرقابة
فوق رؤوس الجميع.
والتوازن المفترض بين السلطتين العسكرية والمدنية سقط
بالضربة القاضية، حين تحوّل زبانية أجهزة المخابرات فجأة إلى أبطال، وحين تم بسرعة
خلق عبادة شخصية الجنرال عبد الفتاح السيسي، تارة عبر تشبيهه بجمال عبد الناصر،
وتارة أخرى بطرحه كمنقذ أول من ضلال فوضى الأمن والأمان.
-
II -
لماذا انتكست ثورة يناير على هذا النحو المفجع؟
الإخوان المسلمون يتحملون مسؤولية كبرى. فهم فهموا الديمقراطية
بشكل مخطيء، حين قفزوا فوق حقيقة أن المراحل الانتقالية إلى الديمقراطية تتطلب
إجماعاً وطنياً لاتفرداً في السلطة. وهم واصلوا التصرف كتنظيم سري منغلق على نفسه
حتى وهم يسيطرون على كل مفاتيح السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما أن أداءهم
الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي دلّ على فقدان ملحوظ للكفاءة وبُعد النظر.
الرئيس مرسي نفسه كان تتويجاً لكل هذه الموبقات، حين رفض
بصلف كل النصائح العديدة التي قدمتها له مروحة واسعة من القيادات العربية
والأجنبية بضرورة ممارسة استراتيجية شمول الجميع في المرحلة الانتقالية، من راشد
الغنوشي ومحمد رجب أردوغان إلى أوباما وكاميرون وأولاند.
لكن، وبعد قول كل شيء عن مسؤولية الإخوان في نكسة
الديمقراطية هذه، يتعيّن القول أن بديل الجماعة لم يكن تصويب مسيرة الديمقراطية
عبر ثورة يناير ديمقراطية ثانية( كما تم تصوير أحداث 30 يناير)، بل تصويب المسدس
إلى رأسها من خلال تسليم مقاليد الأمور ثانية (وبحماسة شديدة) إلى زبانية أجهزة
المخابرات الذين كانوا قد تحولوا إلى طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وفق تعريف
أنطونيو غرامشي، تمارس شتى أنواع النشاطات السياسة والاقتصادية والأمنية، وحتى
الثقافية والفكرية.
أجل. المواطنون المصريون تعبوا من انهيار الأمن والأمان
ويبحثون بالفعل، كما في جل التاريخ الإسلامي، عن منقذ و"مستبد عادل".
لكن لم يكن هذا يستوجب بالضرورة تحويل رجال المخابرات إلى أبطال، لولا أن هذه
النزعة تلقت حقنة دعم قوية في العضل من القوى اليسارية والليبرالية والديمقراطية، التي
أعماها خوفها من الإخوان عن رؤية غابة الاستبداد التي تختفي الآن وراء شجرة البحث
عن الأمن.
هذه القوى هي في الواقع المسؤول الأول عن نكسة ثورة
يناير، تماماً كما أن جماعة الإخوان هي المسؤول الأول عن تعثُّر مرحلة الانتقال
إلى الديمقراطية. وغداً حين يأتي وقت كتابة تاريخ ثورة يناير، سيقال حتماً أن
الإخوان طعنوها في الظهر، لكن اليساريين والليبراليين نحروها من الوريد إلى الوريد،
عبر الصفقة الفاوستية المُغرقة في انتهازيتها التي أبرموها مع النظام العسكري-
الاستخباري، والتي سيدفعون ثمنها غالياً في وقت لاحق.
-
III -
مصر إلى أين من هنا؟
إلى ماكان يصفه كارل ماركس بتكرار التاريخ لنفسه، أولاً
بشكل درامي ثم بشكل كاريكاتوري.
الدراما الأولى تجسَّدت في النظام السلطوي الواضح الذي
حكم مصر 61 سنة. أما الشكل الكاريكاتوري فسيظهر في النظام السلطوي الجديد الذي
يولد الآن، والذي يحاكم بموجبه مغتصبو السلطة رئيساً منتخباً ديمقراطيا.. بتصفيق
حماسي من الديمقراطيين.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق