- I -
كيف يمكن فهم التطورات الكبرى والمتلاهثة في الشرق الأوسط العربي-
الإسلامي؟
المقاربات قد تتعدد بتعدد منابع أصحابها الإديولوجية أو الثقافية. بيد أن
ثمة حقيقة لم يعد في وسع أحد القفز فوقها: الدور الكبير الذي باتت تلعبه
"إمبراطورية العولمة" في إعادة صياغة كل تركيبة النظام العالمي ومعه
بقية النظم الإقليمية الفرعية.
في أوروبا، وبعدها في أميركا الشمالية وجنوب شرق آسيا، أخذ هذا الدور شكل
"التركيب" في أسواق إقليمية كبرى ملائمة للشركات الكبرى متعددة
الجنسيات. لكنه في الشرق الأوسط العربي- الإسلامي لما يغادر بعد مرحلة "التفكيك"
إلى التركيب.
وهنا ثمة 4 نصوص قد تؤكد الفرضية بأن عملية تفتيت الأمة العربية إلى طوائف
ومذاهب، هي انعكاس لكلٍ من أهداف إمبراطورية العولمة (التفكيك والتركيب) من جهة،
كما للخطط الاستراتيجية الغربية- الإسرائيلية، من جهة أخرى.
النص الأول
(المخطط الاستراتيجي البارز في البنتاغون توماس بارنيت):
" إذا مافشلت دولة أومنطقة ما في الانضمام الى العولمة، أو رفضت الكثير من تدفقاتها الثقافية، فإنها ستجد في نهاية المطاف القوات الأميركية على أراضيها. إذ أن لدى الولايات المتحدة مسؤولية إستخدام قوتها الهائلة لجعل العولمة عالمية حقاً، وإلا فإن أجزاء من البشرية ستدان بصفتها خارج النظام وستعرّف على انها عدو. وحالما تحدد الولايات المتحدة أعداءها، فإنها ستشن الحرب عليهم، مطلقة الدمار والقتل، أو الإخضاع عبر تفجير مجتمعاتهم من الداخل لضرب جهاز المناعة والممانعة فيها.
النص الثاني
(مارتن كرامر، الباحث في "مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"):
" في معظم الأمبراطوريات الدينامية الأسلامية، عقد لواء الحكم للأقليات. والآن، رسالة الدقرطة( من ديموقراطية) هي أن حكم الأقلية بات من مخلفات الماضي، وهذا سيعني بالنسبة للشرق أوسطيين تغيّر موازين القوى بين محتلف المجموعات الطائفية والأثنية، وإطاحة هرميات إجتماعية أقيمت قبل الف عام عبر الصراعات الداخلية. كما أن هذا سيعني نسف مقومات الدول الراهنة في المنطقة، وسيكون بالتالي على الولايات المتحدة الأعتراف بإستقلالية المجموعات الأجتماعية والدينية والطائفية".
النص الثالث
(موشي ماعوز، أيضاً من مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"):
" الأقليات الدينية والأثنية أثرّت بشكل عميق على التطورات في الشرق الأوسط طيلة القرنين الماضيين. ومايمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو تشجيع ودعم تشكّل تحالفات طائفية بين هذه الفئات إستناداً إلى أنظمة فيدرالية، أي تقسيم الدول العربية والإسلامية الراهنة إلى دويلات طائفية
وإثنية".
النص الرابع
(الباحث الأميركي روبرت ساتلفوف)
منطقة الشرق الأوسط الكبير في حاجة إلى تطبيق نظرية " اللاإستقرار البنّاء" أو "الفوضى الخلاقة". وإذا ماعنى ذلك تفجير البنى الاجتماعية العربية الراهنة عبر الحروب الاهلية الطائفية والمذهبية، فليكن".
هذه النصوص الأربعة تشكّل خريطة طريق متكاملة لمحاولة فهم خلفية التطورات
وطبيعة الانفجارات الراهنة في الشرق الأوسط العربي والإسلامي. نقول فهم التطورات،
لاكشفها، لأننا نعتقد أن مايجري ليس في واقعه واحدة من تلك المؤامرات المتلاحقة
التي تعرّض إليها العرب منذ سايكس- بيكو، ولا هي مجرد تقاطع صُدَف يمسك بعضها
بخناق بعض، بل هي حصيلة تخطيط علمي على أعلى المستويات هدفه حسم مصير هذه المنطقة
الاستراتيجية، في إطار النظام العالمي الجديد الذي تقوده إمبراطورية العولمة.
أما التساؤل عن سبب ممارسة التفكيك في المنطقة العربية لإدماجها في
العولمة، فيما تم تطبيق عملية التركيب (كما أسلفا) في أوروبا والصين والهند وجنوب
شرق آسيا وغيرها، فلهذا سببان: الأول، وجود إسرائيل بما تملكه عبر اليهود الدوليين
من نفوذ كبير في كابينة قيادة العولمة، والثاني، استمرار الاعتراضات العربية ذات
العمق الإسلامي على الهيمنة الثقافية والسياسية الشاملة لإمبراطورية العولمة.
- II -
هل يعني كل ذلك أن مصير الشرق الأوسط العربي- الإسلامي التفكيكي الطائفي
والإثني بات محتوماً ومختوماً بالشمع الأحمر؟
ليس بالضرورة. ليس تماما. لاتزال أمامنا فرصة قد تكون ثمينة ودسمة.
فقد أطلّ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرون برأسه وهو يحمل في ثناياه
بشائر انقلاب تاريخي كبير في العلاقات الدولية: صعود الحضارات الأسيوية الشرقية
والجنوبية (الصين، الهند، علاوة عن اليابان وبقية النمور الآسيوية) إلى قمرة
القيادة العالمية. وهذا الحدث الكبير سيحمل قسمات تاريخية فاقعة لثلاثة أسباب
متلازمة:
الأول، هو أن هذه ربما ستكون المرة الأولى في التاريخ التي يصعد فيها
العمالقة الشرقيون الثلاثة الصين واليابان والهند في وقت واحد، في حين كان صعود
أحدهما في القرون الماضية يتم على إيقاع هبوط الثاني أو كليهما.
والثاني، هو أن هذه القيامة الآسيوية، تسجّل عودة الحضارات الشرقية القديمة
والعريقة إلى مرحلة الفعل التاريخي، بعد غياب قصري وعنيف فرضته هيمنة غربية استمرت
خمسة قرون.
والثالث، أن سطوع الشمس الآسيوية مجدداً، سيؤدي بعد حين إلى بزوغ نظام
عالمي جديد يكون فيه الغرب الأول بين متساوين، وليس الأول للاشيء كما الحال الآن.
وهذا التطور بدأ يتبلور بالفعل في الهزيع الأخير من العام 2009، حين برزت مجموعة
العشرين التي تضم مجموعة "البريك" (البرازيل، روسيا، الهند والصين)
وبقية الاقتصادات الجديدة الصاعدة، كبديل دولي عن مجموعة الثماني الكبار التي
يهيمن عليها الغرب، والتي كانت تقود العالم من أذنه.
هذه المعطيات ستعني الكثير بالنسبة إلى كلٍ من الحضارة الإسلامية والشرق
الأوسط العربي. ذلك أن عودة شمس الشرق الآسيوي، يمكن أن تكون حافزاً لاستثارة حراك
الحضارة العربية- الإسلامية بصفتها أخر
الحضارات الشرقية التي لم تنبعث بعد من جديد. هذا إضافة إلى أن انحسار الهيمنة
الغربية، سيقلّص حدة المعضلة العربية المُزمنة حول "الصراع ضد الغرب، ومن
أجله"، عبر توفير بدائل حداثة شرقية هذه المرة.
هذه النقطة الأخيرة، أي صعود الشرق الآسيوي وانحسار الغرب الأورو- أميركي،
ليست تفصيلاً بسيطاً، بل هي يمكن أن تُثبت عما قريب أنها الحدث الأضخم في سيرورة
المستقبل العربي والإسلامي. لماذا؟ لأنها تؤكد قاعدة ذهبية لطالما تكررت فصولها في
كل التاريخ: صعود قوة أو حضارة ما، لايكتمل أو ينجز إلا بسقوط أو تضعضع "الآخر" المنافس أوالمضايق لها.
الصورة هنا تبدو زاهية أكثر في معظم العالم الإسلامي وداكنة بالنسبة إلى العالم العربي. فالأول برزت فيه
دول كتركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا، قطعت شوطاً كبيراً في البناء الذاتي
القومي (الدولة- الأمة) والاقتصادي- التكنولوجي، كما في الاندماج في الاقتصاد
العالمي.
ومع ذلك، قد لايكون النفق العربي مظلماً إلى هذا الحد. صحيح أن العوامل
الذاتية العربية تبدو قاتمة أو على الأقل غامضة الآن، إلا أن تغيّر العوامل
الخارجية وحاجة العولمة إلى سوق شرق أوسطي كبير يتكون من 600 مليون مستهلك، قد
تُشكل البناء التحتي لمشروع نهوض قومي عربي جديد متحرر من أخطاء الماضي (التخبّط
بين أولويتي الحرية والتحرر، والتنمية والوحدة) ومنفتح على معطيات
الحاضر(الديمقراطية، وحقوق الأنسان، والاتحاد الاقتصادي والسياسي)، ومتشابك مع
المضمون العميق والثري للحضارة الإسلامية.
الفرصة أمامنا ستتوافر عما قريب. بقي أن نوفّر نحن لها طاقاتنا بما يتجاوز
مرحلة "التفكيك"الراهنة، فنوظفها في مشروع "تركيب" هدفه اللحاق والالتحاق بركب
شمس الشرق الصاعدة.
والطريق إلى ذلك واضح وجلي: عروبة جديدة مستندة إلى الديمقراطية وحقوق
الإنسان، ومتشابكة مع أسمى ما في الحضارة الإسلامية في عصريها الذهبيين إبان حقبتي
الخلفاء الراشدين (القيم الأخلاقية والمساواة والعدل) والعباسية (التطويرات
الهائلة في العلوم والطب والفلسفة).
سعد محيو
________________________________________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق