"الولايات المتحدة خسرت للتو آلاف الأرواح
الأميركية في أرض بعيدة من أجل نصر يبدو الآن فارغاً، هذا إذا كان بالامكان أسلاً
تسميته نصرا. علاوة على ذلك، بلادنا تخرج من ركود وهي متدهورة المعنويات ومستغرقة
في شأنها الداخلي، وقلقة من هشاشة الشفاء الاقتصادي ومن حالة ديمقراطيتها.
المثالية تبدو عملة نادرة. وبالتالي، وحين تطل في الأفق حرب بعيدة يمتنع
الأميركيون عن الانحياز إلى أي جانب، حتى ولو كان ذلك ضد ديكتاتور لايرحم، وحتى لو
اقتصر الأمر على مجرد إرسال الأسلحة. والأصوات المعارضة للانخراط تتراوح بين
اليسار المسالم واليمين الشعبوي. والرئيس، الذي يخشى أن يقوّض الصراع الخارحي
أجندته المحلية، يتأرجح كالبندول في مواقفه".
هكذا تحدث الكاتب الأميركي لاين أولسون. لكن عمن كان
يتكلم؟ عن النصر الأميركي الفارغ في العراق وأفغانستان، وعن رفض أميركا التحرك ضد
بشار الأسد، أو عن رفض أوباما التدخل في الشرق الأوسط خوفاً على برامجه الداخلية؟
لا هذا ولا ذاك. الكاتي كان يتحدث عن أوضاع أميركا العام
1940، حين كان الرئيس روزفلت يتقلب كل يوم في مواقفه إزاء ألمانيا النازية، كما
يفعل الآن أوباما في سياسته الخارجية، وحين كانت أميركا تعيش حالة عزلة عميقة غداة
اشتراكها في الحرب العالمية الأولى.
مناخ العزلة نفسه الآن يجتاح أميركا، لكنه وعلى عكس
الأربعينيات يترافق هذه المرة مع سؤال كبير: هل بدأ انحدار أميركا عن عرش القوة
العظمى، وهل ما نراه الآن من تقوقع وانحسار ( Retrenchment) في السياسة الخارجية الأميركية،
خاصة في الشرق الأوسط، هي علائم على هذا الطريق الانحداري.
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنستعرض معا
ما يقوله كلٌ من أنصار تبار العزلة والتقوقع وأنصار مواصلة الانخراط الأميركي في
العالم.
الجدل الساخن لايزال ساخناً في الولايات المتحدة منذ
سنتين حول الوسيلة الأنجع للحفاظ على الزعامة العالمية الأميركية في القرن الحادي
والعشرين. وهو جدل يدور بين معسكرين رئيسيين إثنين:
الأول، يدعو إلى تقليص الالتزامات الأمنية- العسكرية
الأميركية في العالم إلى حد كبير، والتركيز بدلاً من ذلك على "بناء
الأمة" في الداخل الأميركي وعلى تطوير الاقتصاد والبنى التحتية والتعليم
والصحة وسد الفجوة الهائلة التي تزداد اتساعا بين الفقراء والاغنياء.
والثاني، يطالب بإبقاء الاستراتيجية الكبرى الراهنة
القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي
الراهن بقوة السلاح الأميركي، ويحذَر من أن التخلي عن هذه الاستراتيجية والتقوقع
في الداخل سيعنيان نهاية الدولار كعملة احتياط عالمية ومعه البحبوحة الأقتصادية
الأميركية.
المقاربة التي يُطل بها أنصار الخيار الأول الإنسحابي
على إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منها منطقة الخليج، تعزز في الواقع الانطباع
بأنه مالم تعمد الأنظمة والأسر الحاكمة في الشرق الأوسط إلى إحداث إصلاحات سياسية
شاملة في ممالكها وإماراتها وجمهورياتها، فإنها ستضع نفسها (وربما أوطانها أيضاً)
في خطر ماحق، ولن يقدم الغرب على انقاذها.
ماذا يقول أنصار هذا المعسكر؟
أحد أبرز ممثلي هذا التيار هو باري بوسن، مدير برنامج
دراسات الأمن في مؤسسة ماساشوستس للتكنولوجيا. وهو نشر مؤخراً في دورية
"فورين أفيرز" دراسة بعنوان :"انسحبوا- الدفاع عن قضية سياسة
خارجية أميركية أقل نشاطاً". (Pull back: The case for a less activist foreign policy)
)
جاء في الفقرات المتعلقة بمنطقة الخليج على سبيل المثال:
- على المؤسسة العسكرية (الأميركية) إعادة تقييم التزاماتها في الخليج "الفارسي"، إذ
يجب على الولايات المتحدة أن تساعد الدول في هذه المنطقة على الدفاع عن نفسها ضد
هجمات خارجية، لكن ليس في وسعها تحمُّل مسؤولية الدفاع عنها ضد تمردات داخلية.
- واشنطن لاتزال في حاجة إلى إعادة تطمين دول الخليج
حيال الدفاع عنها ضد قوة إقليمية مثل إيران قد تهاجمها وتخطف ثروتها النفطية، لكن
لم يعد ضرورياً أن يقيم الجنود الأميركيون قبالة شواطىء هذه الدول، حيث أن وجودهم
يثير النزعة المعادية لأميركا ويربط الولايات المتحدة بأنظمة أوتوقراطية مشكوك في
شرعتيها.
- على سبيل المثال، تعاني البحرين من قلاقل داخلية
كبيرة، الأمر الذي يطرح أسئلة حول قابلية استمرار الوجود العسكري الأميركي
المتنامي هناك. وقد أثبت العراق أن محاولة تنصيب أنظمة جديدة في البلدان العربية
أمر مخطيء من ألفه إلى الياء. وبالتأكيد، الدفاع عن أنظمة قائمة تواجه ثورة داخلية
لن يكون أسهل بأي حال.
نص واضح؟
يفترض ذلك. وهو يجب أن يدق أجراس إنذار قوية لدى كل
الأنظمة الملكية التي لاتزال تراهن على أن الغرب يمكن أن يحافظ على الصفقة التي
عقدها مع الإسلام السياسي الخليجي منذ الحرب العالمية الثانية، على رغم كل
إنقلابات الربيع العربي.
قد يقال هنا أن باري بوسن ليس سوى صوت واحد من جمهرة
أصوات في أميركا ترفض الفصل بين الصفقة الأمنية وبين التحالف السياسي بين الولايات
المتحدة ودول الخليج.
وهذا صحيح.
لكن الصحيح أيضاً أن هذا الصوت المنفرد بات يصبح له
أنصار كثر، خاصة وأن منطقة الخليج تمتص 15 في المئة من إجمالي النفقات العسكرية
الأميركية المكلفة في العالم. كما أنه يندرج ضمن إطار تطورين إثنين:
الأول، قيام أميركا بقلب نوعية تحالفتها مع حركات
الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، من خلال تبينها للقوى الإسلامية التي تعانق شروط
العولمة الليبرالية (النماذج التركية والإندونيسية والماليزية.. ألخ).
والثاني، أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية في العالم تمر
هي الأخرى في مرحلة مخاض وتطوير وتبديل، بفعل تحوّل السلطة الاقتصادية والتجارية
من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهاديء، وهو مخاض لابد أن يترك تأثيرات جلى على
منطقة الشرق الأوسط ومركزها الخليجي.
المنطق الانسحابي
نعود الآن إلى وجهة نظر "المعسكر الانسحابي"
الأميركي لنتساءل: ما المرتكزات الفكرية - الاستراتيجية لهذا المعسكر؟
يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- استراتيجية الهيمنة الليبرالية الشاملة على العالم غير
منضبطة، ومكلفة، ودموية، وهي تخلق أعداء بالقدر نفسه الذي تقتلهم فيه. كما أنها
تثبط عزيمة ورغبة الحلفاء في تحمُّل أكلاف الدفاع عن أنفسهم، كما تحفز الدول
القومية الأخرى على التجمع في جبهة واحدة ضد أميركا.
- على رغم أن القوة الاقتصادية النسبية للولايات المتحدة
انخفضت إلى حد كبير خلال العقد الماضي، إلا أن البنتاغون لايزال يحصد الأموال
الطائلة والاعتمادات الهائلة. وهذا أمر لم يعد قابلاً الآن للاستمرار، لأنه يضع
الولايات المتحدة تحت رحمة خطر التمدد الاستراتيجي الزائد الذي كان العامل الرئيس
في تقويض كل الامبراطوريات السابقة في التاريخ.
- آن الأوان للتخلي عن استراتيجية الهيمنة الأميركية
واستبدالها باستراتيجية ضبط النفس. وهذا يعني التخلي عن السعي وراء الإصلاح
العالمي والاكتفاء بالعمل على حماية المصالح القومية الأميركية الضيقة، وكذلك
تقليص عديد وعتاد الجيش الأميركي والتخلي عن بعض القواعد العسكرية في أنحاء
العالم، وتحميل الحلفاء أكلاف الدفاع عن أنفسهم.
هذه الاستراتيجية البديلة المنضبطة، التي لاتعني
بالضرورة عودة الولايات المتحدة إلى عزلتها التاريخية، يجب أن تستند فقط إلى ثلاثة
ركائز لاغير:
أولاً، منع بروز منافس قوي يقلب موازين القوى العالمية
الراهنة. وهذا، على أي حال، ماكانت تفعله الولايات المتحدة منذ قرن من الزمن وحتى
الآن. فالاستراتيجيون الأميركيون جهدوا كي يضمنوا بألا تسيطر دولة واحدة على
الكتلة البرية لقارة أوراسيا، لأن هذه الدولة ستمتلك حينئذ الموارد الكافية
لتشكِّل خطراً على أميركا. وهكذا فقد خاضت الولايات المتحدة حرباَ ساخنة مع
ألمانيا واليابان واخرى باردة مع الاتحاد السوفييتي لمنعها من أن تكون هي هذا
الخطر. لكن، على رغم أن الصين قد تحاول لعب دور المهمين في أوراسيا، إلا أن هذا
ليس وشيكاً ولا هو حتى حتمي.
ثانيا، مواصلة القتال ضد الإرهابيين. يتعيّن على
الولايات المتحدة أن تحمي نفسها من تنظيم القاعدة وأشباهه. لكن هؤلاء ضعفاء للغاية
ولا يشكلون أي تهديد لسيادة أميركا ووحدة أراضيها أو مواقع قوتها. وبالتالي،
تستطيع أميركا ان تقاتلهم بقوة متكافئة لقوتهم وليس بشن الحروب أو بالعمل على بناء
الأمم كما يحدث الآن في أفغانستان. وهذا يمكن ان يتم من خلال تكثيف العمل
الاستخباري، ومطاردة الإرهابيين في الخارج، ومواصلة التعاون مع الحكومات الضعيفة
الأخرى ودعمها بالتدريب والتسليح، إضافة إلى شن العمليات الخاصة وغارات الدرون
(الطائرات من دون طيار).
ثالثا، وأخيرا، يجب على الاستراتيجية المنضبطة أن تهتم
عن كثب بمنع انتشار الأسلحة النووية، لكن مع الاعتماد بشكل أقل على التهديد
باستخدام القوة العسكرية لمنع هذا الانتشار، وبشكل أكبر على الردع، إلا إذا ماتطلب
الأمر هجوماً عسكرياً وقائيا.
دعوة للتواضع
هكذا يرى أنصار الاستراتيجية المنضبطة إلى الدور
الأميركي في العالم. وكما هو واضح، ليست هذه الرؤية إعادة إنتاج للنزعة الانعزالية
الأميركية التاريخية، بل هي دعوة تنطلق من القلق من أن إمكانات أميركا الاقتصادية
لم تعد متطابقة مع طموحاتها الاستراتيجية التي باتت تنافسها عليها قوى أخرى دولية
صاعدة.
وهذا رأي اعترف به تقرير "الاتجاهات العالمية
2030" الذي وضعته 16 وكالة مخابرات أميركية وجاء فيه أنه "مع الصعود
السريع لبلدان أخرى، فأن "لحظة القطبية الوحيدة" الأميركي قد ولَّت، كما
أن الباكس أميركانا، وهي الحقبة التي شهدت الصعود الأميركي إلى قمرة القيادة
العالمية غداة الحرب العالمية الثانية، يتبدد سريعا".
كما يؤيد هذا الرأي أيضاً الحقيقة بأن السلطة العالمية
باتت تتوزع الآن بين قوى صاعدة جديدة، جنباً إلى جنب مع القوة الأميركية. وهذه
القوى لاتوجد فقط في مجموعة "البريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين،
وجنوب إفريقيا) بل أيضاً في مجموعة "المينت" ( المكسيك، إندونيسيا، نيجيريا،
وتركيا).
وبالتالي، سيكون على الولايات المتحدة برأي أنصار
الاستراتيجية المنضبطة، أن تتراجع الآن إلى مواقع جديدة أكثر تواضعاً وواقعية،
وإلا ستُجبر بعد حين على التأقلم فجأة
وبشكل مؤلم وكارثي، وخطير (على حد تعبير البروفسور باري بوسن، مدير دراسات الأمن في
مؤسسة ماسشوستس للتكنولوجيا).
معسكر الهيمنة
ماذا الأن
عن منطق المعسكر الآخر المتمسك بمواصلة استراتيجية "الهمينة الليبرالية"
الأميركية على العالم؟
وجهة نظر
هذا التيار تقوم على التالي:
- منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية، انتهجت الولايات المتحدة استراتيجية كبرى واحدة:
الانخراط العميق في شؤون العالم. فمن أجل حماية أمنها وبحبوحتها، بنت أميركا
نظاماً اقتصادياً عالمياً ليبرالياً، وأقامت روابط دفاع وثيقة مع شركاء في أوروبا
وشرق آسيا والشرق الأوسط. وهذا توجُّه التزم به كل الرؤساء الأميركيون بلا
استثناء.
- لكن
الآن، قد تشعر واشنطن بإغراء للتخلي عن هذه الاستراتيجية الكبرى وتنسحب من العالم،
بفعل صعود الصين والعجوزات الضخمة في الموازنة والتعب من الحربين المكلفتين في
العراق وأفغانستان. لكن هذا سيكون خطأ فادحا: فخفض النفقات الدفاعية على مدى عشر
سنوات لن يوفّر على الخزينة سوى 900 مليار دولار. ثم أن ضخامة القوة العسكرية
الأميركية منعت بروز أي دولة كبرى تطمح إلى موازنتها، وهي قوة لاتكلف أميركا سوى
4،5 بالمئة من الانتاج المحلي الإجمالي، هذا في حين أن الاتحاد السوفيييتي كان
يصرف على الدفاع 25 في المئة من الانتاج المحلي الإجمالي، الأمر الذي أدى إلى
إفلاسه ومن ثم انهياره.
- من دون
استمرار الزعامة العالمية الأميركية، ستتحول العديد من الدول، منها كوريا الجنوبية
وتايوان واليابان في آسيا ومصر والسعودية وتركيا في الشرق الأوسط إلى قوى نووية،
وسيصبح الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن الدفاع عن نفسه في مواجهة روسيا والشرق
الإسلامي.
- لكن
الأهم من كل هذه العوامل، برأي أنصار استمرار الهيمنة الليبرالية الأميركية، هو
الرابط الوثيق بين السيطرة العسكرية لأميركا وبين هيمنتها الاقتصادية.
فالاستراتيجية
الاميركية الراهنة تحافظ على النظام الاقتصادي العالمي الذي أقامته واشنطن بعد
الحرب العالمية الثانية والذي يخدم إلى حد كبير مصالحها الاقتصادية القومية. وهكذا
فإن السيطرة العسكرية هي في أساس الزعامة الاقتصادية الأميركية للعالم. وفي حال
سحبت اميركا وجودها العسكري من معظم المناطق، فسيكون من الصعب عليها للغاية إقناع
القوى الدولية الأخرى برعاية المصالح الاقتصادية الاميركية. والحال أن الدور
العالمي يسمح لأميركا أن تشكّل الاقتصاد العالمي كما ترغب وتشتهي، ويساعدها على
الدفاع عن الدولار كعملة الاحتياط الرئيسة في العالم، الأمر الذي يوفَّر للبلاد
مزايا ضخمة على رأسها قدرتها على استدانة المال بسهولة.
- كل هذا
لايعني أنه لا يمكن، أو يجب، تعديل الاستراتيجية الكبرى كلما تطلبت الظروف ذلك.
وهذا، على أي حال، مافعله الرئيس نيكسون مثلاً حين سحب اميركا من فييتنام وعوّض عن
ذلك بضم الصين إليه في معركته ضد الاتحاد السوفييتي. وهذا يوضح ان التعديل ممكن من
دون المس بجوهر الاستراتيجية الكبرى الخاصة بالزعامة الأميركية للعالم.
مبدأ أوباما
هذه
باختصار الخلاصات العامة للتيار الأميركي الداعي إلى عدم تقليص الالتزامات
الأميركية في العالم، وإلى مواصلة استراتيجية ما يسمونه "الهيمنة
الليبرالية".
وكما يتضح
من هذه المعطيات، منطق هذا التيار يبدأ وينتهي بفكرة رئيسة واحدة: استمرار
الازدهار الاقتصادي الأميركي لم يعد ممكناً من دون استمرار الهيمنة العسكرية
الأميركية على العالم: اسحب القوات والالتزامات الأمنية لحلفاء أميركا، تنهار
دعائم الاقتصاد.
أي تقف
إدارة أوباما في هذا التجاذب العنيف في الداخل بين تياري "التراجع"
و"التقدم" الأميركي في العالم؟
يبدو حتى الآن أنها تتذبذب في "منزلة بين
منزلتين"، مع ميل أكثر قليلاً إلى تيار التراجع. وهذا واضح وجلي في مايطلق
عليه في واشنطن الآن استراتيجية "الاستدارة (Pivot ) أو إعادة التوازن ( Rebalancing) نحو منطقة آسيا-
الباسيفيك"، بدلاً من التركيز على أوروبا- الأطلسي كما كان الأمر منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية.
المسؤولان الاستراتيجيان البارزان في الشؤون الأمنية
الأميركية شون بريملي وإيلي راتنر يلخصان هذه الاستدارة أو إعادة التوازن بالنقاط
الرئيسة التالية:
- أوباما وصل إلى الحكم وهو على قناعة بأن حربي العراق
وأفغانستان منعت الولايات المتحدة من تركيز الموارد في آسيا التي تعتبر منطقة مركزية للمصالح
الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية. وهذا دفعه إلى إعادة ترتيب الأولويات الأميركية
والاعتراف بالحقائق الجيو- سياسية المتغيرة للقرن الحادي والعشرين.
- هذا التوجه الجديد لايقتصر على الجوانب العسكرية بل
يطال أيضاً المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية، وتعزيز العلاقات مع
الحلفاء التقليديين وبناء علاقات أعمق مع القوى الصاعدة، بما في ذلك الصين، وتنويع
المواقع العسكرية للولايات المتحدة. كما أنه (التوجه) يهدف إلى التركيز على
الاهمية الجيو- سياسية لمنطقة المحيط الهندي بوصفه الطريق الرئيس للتجارة
العالمية. وقد دعمت واشنطن تطور علاقات أكثر وثوقاً بين الهند وبلدان جنوب ووسط
آسيا.
- واشنطن لاتسعى إلى حفز دول كفيتنام والفيلبين وغيرها
على تحدي الصين، بل تعمل على بناء نظام
إقليمي آسيوي تحكمه القواعد والمؤسسات، بما في ذلك مؤسسة الحوار الاستراتيجي
والاقتصادي الأميركي- الصيني وحوار الأمن الاستراتيجي. والواقع أن السنوات الأربع
الماضية شهدت قفزة نوعية في الانخراط الأميركي الإيجابي مع بجبينغ أكثر من أي مرحلة أخرى في تاريخ العلاقات بين
البلدين.
- في حقبة التقشف المالي الذي تمر به الولايات المتحدة،
سيتطلب التركيز على منطقة آسيا- الباسيفيك خفض الالتزامات الاميركية في باقي مناطق
العالم، وأيضاً على الطلب من حلفائها وشركائها في هذه المنطقة تحمُّل مسؤوليات
إضافية. وهكذا يتعيّن على جيوش دول مثل استراليا واليابان وسنغافورة وكوريا
الجنوبية وتايلاند ان تساهم بشكل أكبر في الأمن الإقليمي على مستويات متوافقة مع
إمكاناتها.
هذه هي قواعد الاستدارة شرقاً نحو آسيا التي بدأت إدارة
أوباما بتطبيقها. وهي، كما هو واضح، تتكوّن من عنصرين إثنين: العمل على إصلاح
وتصحيح مسار الاقتصاد الاميركي في الداخل، وتقليص النفقات والأعباء والالتزامات
الأميركية في الخارج.
الرئيس أوباما كرّس جل خطابه أوائل العام 2013 عن حال
الاتحاد على الشأن الاقتصادي الداخلي، بوصفه المدخل لتعزيز الزعامة الأميركية
العالمية. وهو أطلق على هذه المهمة وصف " إعادة إشعال" الآلة الاقتصادية
الأميركية. وهذا يشمل خفض العجوزات وجبل الديون الضخمة، وإعادة تصنيع أميركا،
والتركيز على تكنولوجيات الطباعة ذات الأبعاد الثلاثة (3-D printing ) التي تحدث الآن ثورة كبرى في كل
مجالات الانتاج الصناعي، وبيوتكنولوجيا الجينوم، والنفط والغاز الحجري (shale oil and gas ) الذي سيمنح الولايات المتحدة
قريباً اكتفاء ذاتياً من الطاقة.
وحين تطرق أوباما إلى السياسة الخارجية، كان ملفتاً أنه
ركّز على رفض شن حروب ضد الإرهاب والاكتفاء بمساعدة الدول الأخرى على محاريته،
والعمل على منع انتشار الأسلحة الخطرة (لدى إيران وكوريا الشمالية)عبر
الدبلوماسية، وحماية الوطن الأميركي من الهجمات الالكترونية. كما أنه شدد على
ضرورة تسريع المفاوضات حول الشراكة التجارية عبر كلٍ من المحيطين الهاديء في آسيا
والاطلسي في أوروبا.
وكل هذا يشي بأننا نقف بالفعل أمام مرحلة جديدة في
التوجهات الخارجية الأميركية، قوامها الضبط الاقتصادي "القومي" في
الداخل، وخفض الالتزامات (والحروب) الأميركية في الخارج، وإعادة تركيب نظام
العولمة الأميركي بما يخدم هدفين في آن: احتواء صعود الصين، ومواصلة ترسيخ الزعامة الأميركية على العالم.
ومن بطن هذه التوجهات الجديدة، تولد الآن سياسة خارجية
أميركية جديدة في الشرق الأوسط. سياسة وصفها الكاتب الأميركي ديفيد أغناتيوس بأنها
قد تشبه في عمقها وخطورتها الانفتاح الأميركي على الصين في الستينيات أو حتى حقبة
نهاية الحرب الباردة في التسعينيات.
فما هي ملامح هذه الاستراتيجية الشرق اوسطية الجديدة؟
وما فرص نجاحها؟
(للحديث صلة)
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق