-
I -
ثمة تفسيران للعنف الوحشي المنفلت من عقاله هذه الأيام
في سورية، والذي كانت مجزرة الخبز في حلفايا تجسيداً فاقعا له: الأول سياسي،
والثاني ثقافي.
التفسير السياسي يجب أن يكون واضحا: صقور النظام السوري
سيلجأون إلى المذابح والمجازر في كل مرة يلوح فيه أفق تسوية سياسية ما، لأن مصيرهم
بات مرتبطاً بكسب الحرب بأي ثمن، لابدفع أثمان مقابل تسوية ستكون حتماً على
حسابهم.
وهكذا، كان متوقعاً أن يترافق وصول الأخضر الإبراهيمي،
الذي يقال أنه يحمل إلى الأسد مشروع تسوية روسية- أميركية مشتركة، مع مجازر ما،
كوسيلة "مثالية" لاطلاق رسائل رفضية مخضّبة بالخبز والدم برسم كل
الأطراف الدولية المعنية.
هذا الموقف الصقوري في الداخل السوري، يتقاطع مع موقف
إقليمي قد لايقل صقورية تتزعمه إيران، التي يبدو أنها تجد نفسها الخاسر الأكبر في
أي صفقة دولية لحل الأزمة السورية، ومعها أطراف قومية روسية تحبذ مواصلة منازلة
الغرب على الأرض السورية حتى الرمق الأخير. هذا إضافة بالطبع إلى إسرائيل التي ستخدم
الحرب الأهلية السورية المديدة استراتيجيتها لترميم صرح إمبراطوريتها الصغيرة في
المشرق العربي.
-
II -
كل هذه المعطيات تشي بمدى تعقيد الأزمة السورية، بعد أن
تدوّلت هذه الأزمة إلى حد بعيد، وبات أي اقتراح تسوية فيها يحتاج إلى أن يدور على
كل عواصم الشرق الاوسط وأميركا وأوروبا وروسيا، قبل يحط الرحال دمشق.
بيد أن هذا التدويل الحاد لم يكن ليبرز لولا أن ثمة
عوامل احتضان محلية سورية توافرت له. وهنا يبرز التفسير الثاني للعنف السوري:
الإرث الثقافي اذلي يمكن تلخيصه بثلاثة عوامل متقاطعة:
الأول، العنف الهائل الكامن في سيكولوجيا الطائفة الجَبَلِية
العلوية، الناجم أساساً على الاضطهاد والنبذ التاريخيين اللذين تعرضت لهما على مدى
أكثر من ألف عام. وهذا ماعبّر عنه رحالة فرنسي زار جبال العلويين في أواخر القرن
التاسع عشر :" مناطق هذه الطائفة هي جهنم حقيقية على الأرض، حيث يسود الفقر
والأمراض والغضب والخوف من الاضطهاد الأكثري. والحال أن ماحدث في هذا الجبال هو أن
الإنسان لم يؤنسن الطبيعة، بل الطبيعة هي التي "وحشنت" الإنسان".
صحيح أن الانتداب الفرنسي، وإعادة توحيد الدولة العلوية
التي قامت في العشرينيات مع الوطن السوري، ومن بعدهما الاستقلال، ومن ثَمَ بروز
حزب البعث العربي الاشتراكي، أخرجا العلويين من عزلتهم التاريخية القاتلة ودفعت
بهم إلى مدينتي اللاذقية وطرطوس أولاً ثم لاحقاً إلى مدن دمشق وحمص وحماه، إلا أن
ثقافة العنف- الخوف بقيت ماثلة، وعززها انخراط العلويين الكثيف كمقاتلين في الجيش
منذ الانتداب، كما في حزب البعث الذي حمل أساساً فكراً شمولياً، وفاشياً في بعض
الأحيان، مناهضاً للديمقراطية الليبرالية.
وهكذا اقتصر تمدين الريف العلوي على نخبة متنورة قدمت
اسهامات كبرى في الثقافة والفن والمسرح والفكر، فيما بقيت السطوة الرئيس للمخزون
العنفي في مؤسستي الجيش وحزب البعث. وقد كان الأمر يحتاج إلى ثورة ليبرالية حقيقية
كي يتحوّل اندماج العلويين في المجتمع والدولة والسياسة العامة من حركة مفروضة
بالقوة، إلى توحّد مستند إلى المقبولية المشتركة. وهذا أمر كان ممكناً بعد أن عمد
حافظ الأسد إلى إ ضعاف الدين العلوي
وألحقه بالتيار الإسلامي الشيعي العام. بيد أن هذا الممكن بقي مشروعاً على الورق.
العامل الثاني للعنف سنّي هذه المرة، وهو ينبع من
الحقيقة بأن الثورة السورية الراهنة بقضها وقضيضها هي ثورة الريف السنّي على
المدينة العلوية- السنية التي نشأت من صفقة ضباط العلويين مع تجار المدن. وبما أن
أي ريف فقير هو بالضرورة البيئية والجغرافية ريف عنفي، كان طبيعياً أن تكون
المجابهة مع السلطة العلوية عنيفة هي الأخرى.
العامل الثالث للعنف هو الثورة الديمغرافية التي شهدتها
سورية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي برزت فيها "طفرة شباب" (Youth bulg ) كانت كثرة منهم عاطلة عن العمل، ومحرومة، وتحمل
إديولوجيات دينية متطرفة، ساهم في بروزها الفشل المريع للقومية العربية العلمانية
في تحقيق تحقيق نهضة حداثية ووطنية حقيقية تشمل كل فئات المجتمع، ناهيك بفشل
المشروع القومي نفسه (وحدة، حرية، اشتراكية).
-
III -
هذه، على مانرى، بعض أسباب العنف الحاد في سورية.
وبالطبع، ثمة أسباب أخرى تتعدد بتعدد فروع العلوم الإجتماعية والتاريخية
والسيكولوجية والسياسية.
وأي تسوية لاتأخذ في الاعتبار معالجة مسألة جذور العنف
وأسبابه، ستكون قاصرة عن تحقيق النجاح أو الديمومة لنفسها.
فالتسوية في أي مجتمع تعددي يجب أن تكون ثقافية بقدر
ماهي سياسية.
سعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق