ماذا يحدث
حين يتحدث وزير الخارجية الروسي لافروف بصراحة عن كيفية إطلال روسيا على الأزمة
السورية؟
تتضح
الأمور. تنجلي المغاليق. وينزاح بعض الغموض عن المآل الذي يمكن أن تصل إليه بلاد
الأمويين، على الأقل خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.
لافروف لم
يستخدم هذه المرة أسلوب الدفاع عن مباديء سيادة الدول (فهو يعرف أنه منطق سقط
بالضربة القاضية مع العولمة ومبدأ "مسؤولية التدخل")، ولا عن
الشرعية الدولية. تحدث فقط عن الجيو- سياسة والجيو- استراتيجيا.
كتب في صحيفة "هافينغتون
بوست" الاميركية :" إن محاولات اطاحة الاسد وتغيير النظام ، تشكّل جزءاً
من "لعبة جيوسياسية" أوسع في المنطقة تستهدف ايران" مبرزاً ضرورة تفادي اللاعبين الدوليين هذا
السيناريو الذي من شأنه ادخال سوريا في حرب اهلية طويلة الامد تؤثر على الامن
الاقليمي والدولي".
هذا، بالطبع إضافة إلى التمخضات الداخلية العنيفة التي يشهدها
الاجتماع السوري، هو البعد الحقيقي للأزمة السورية.
هذه النقطة كان تطرق إليها قبل تصريحات لافروف الصريحة هذه جمال
واكيم، الكاتب والباحث المتخصص في الشأن السوري ورئيس قسم الإعلام الجامعة اللبنانية الدولية. بحث واكيم رصين ومعمّق،
على رغم أننا قد نختلف معه قليلاً حول مدى موقع روسيا في النظام العالمي الجديد.
___________
في ما يلي مقال جمال:
سورية. نحو
تسوية روسية-أميركية
على حساب
أوروبا وتركيا والصين وإيران؟
د.جمال واكيم
لم يعد هنالك شك في أن ما يجري في سورية منذ أكثر من عام
ليس فقط نتيجة أزمة داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية لنظام لم ينجح في التأقلم
مع متغيرات كثيرة داخلية وخارجية. فالتدخل الغربي والعربي لصالح
"المعارضة" السورية، في مقابل الفيتوات الصينية-الروسية لصالح النظام،
يلاقيه تأمين تركي لقاعدة آمنة للمسلحين المعارضين للنظام، في مواجهة دعم إيراني
مطلق للقيادة السورية يؤكد تشعب المسألة السورية في أبعادها المحلية والإقليمية
والدولية. الواجب ذكره أن الأزمة السورية قد أظهرت للعيان وجود تكتلين من القوى
يقفان في مواجهة بعضهما البعض، الأول ويضم ائتلافا من القوى البحرية على رأسه
الولايات المتحدة تليه أوروبا الغربية وتركيا، وتسيطر على المواصلات البحرية
العالمية، أما الثاني فيضم ائتلافا من القوى البرية الآسيوية وعلى رأسها روسيا
تليها الصين وإيران (تكتل شنغهاي) ويهدد بإغلاق البر الآسيوي أمام النفوذ
الأميركي.
الشرق الأوسط، ضمانة التفوق الأميركي...
لقد كان
المسؤولون الأميركيون يعون هذا الواقع منذ السبعينات بناء على تأثرهم بالمدرسة
الجيوسياسية البريطانية (هالفورد ماكيندر) والتي تقول بضرورة منع توحد البر
الأوراسي في ظل قوة واحدة ومنع أوراسيا من الخروج إلى البحار الواسعة. والدليل على
ذلك هو الكتاب الذي نشره المستشار السابق للأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي
في الثمانينات من القرن الماضي بعنوان رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يعتبر فيه أن على الولايات المتحدة
السيطرة على الشرق الأوسط لتحقيق جملة أهداف أهمها منع تقارب روسي-أوروبي يوحد
القلعة الأوراسية ويتيح لها الوصول إلى البحار والمحيطات ما يعزل الولايات المتحدة
ويهدد هيمنتها العالمية. وكان الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون قد تنبا منذ
السبعينات لتحول العالم ما بعد الحرب الباردة إلى عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه
الصين وروسيا وأوروبا واليابان إلى جانب الولايات المتحدة دورا رئيسيا في إدارة
شؤون العالم.
من هنا
كان على الولايات المتحدة إعادة تنظيم شؤون العالم بما يتوافق مع هذه المعطيات
وبالتالي فقد وجد المسؤولون فيها أن عليهم إعادة تنظيم العلاقات الدولية بما يضمن
دور القيادة لواشنطن بأكلاف قليلة. لذلك فهم وجدوا أن السيطرة على الشرق الأوسط من
شواطىء الأطلسي غربا غلى حدود الصين شرقا يتيح لهم جملة عوامل، أهمها دق اسفين ما
بين روسيا وأوروبا الغربية، وفصل هذه الأخيرة عن إفريقيا، ومنع روسيا من الوصول
إلى المتوسط والمياه الدافئة، ودق اسفين في وسط آسيا ما بين روسيا والصين، وخنق
هذه الأخيرة داخل حدودها. هذا يفسر اجتياح الأميركيين لأفغانستان في العام 2002،
ومن ثم للعراق في العام 2003. إلا أن الأكلاف الكبيرة التيي تكبدتها الولايات
المتحدة جعلتها تقتنع باستحالة خيار السيطرة المباشرة على المنطقة خصوصا في ظل
تفجر الأزمة الإقتصادية فيها في العام 2008. من هنا كان الخيار بالإنسحاب من
العراق والسعي لفك الإشتباك في أفغانستان ومحاولة تسلمي وكيل حصري لأعمالها في
الشرق الأوسط.
إسلام الإعتدال محل عرب الإعتدال!
هذا دفع
بالأميركيين إلى اللجوء إلى حليف قديم هو الإسلاميون تحت شعار التصالح مع الإسلامي
المعتدل. بالنسبة لهم كان يمكن للأحزاب الإسلامية التي تعتمد مقاربة اقتصادية
نيوليبرالية أن تمسك بزمام الحكم في بلدانها بما يحفظ النفوذ الأميركي فيها. هذا
الخيار جاء في ظل عجز قوى الإعتدال العربي بزعامة المملكة العربية السعودية ومصر
من مواجهة "تمدد شيعي إيراني" نحو المتوسط كان سيتيح موطىء قدم لكل من
الصين وروسيا على ضفاف المتوسط لتنطلقا منه إلى المياه الدافئة. تفجر الأزمة في
مصر في يناير 2011 عجل من تنفيذ الولايات المتحدة لمقاربتها الجديدة. وبالتالي فإن
هذه المقاربة كانت ستتيح الإستعاضة عن الإعتدال العربي بإدخال تركيا على الخط،
وبالتالي إقامة مثلث من العواصم "السنية" هي أنقرة والرياض والقاهرة ،
وتحكمها أنظمة "إسلامية" لتقف سدا منيعا في مواجهة "الخطر الشيعي
الإيراني"، وبالتالي منع روسيا والصين من آخر إطلالة لهم على المياه الدافئة،
خصوصا أن خروجهم إلى المحيط الهادىء كان مقيدا بسلسلة من الجزر التي تخضع للنفوذ
الميركي من اليابان شمالا، إلى تايوان والفليبين وإندونيسيا وماليزيا جنوبا.
كانت
سورية تشكل اختراقا لهذا المثلث الذي تزمع الولايات المتحدة. لذلك فلقد جاء السعي
الأميركي ومعه الأوروبي والتركي لدعم المعارضة المسلحة للنظام السوري بغية اسقاطه.
إلا ان النظام تمكن من الصمود نتيجة عوامل عدة منها الدعم الإيراني والصيني
والروسي، وبات السوريون أمام متمردين مسلحين عاجزين عن إسقاط النظام، ونظام عاجز
عن إسكات هذا التمرد المسلح. وبات الأمر رهن قوة روسية ترفض خسارة آخر موطىء قدم
لها على المتوسط والمياه الدافئة وهو ميناء طرطوس، وقوة أميركية تعتبر أن هذه هي
الفرصة السانحة لها لإقامة نظام عالمي بقيادتها يعطي الأولوية لمصالحها في العالم.
لذلك فإن الحل الأمثل يكمن في تسوية أميركية روسية للوضع في سورية.
ثنائية قطبية جديدة؟
من المعروف عن الولايات المتحدة ايلاؤها الأولوية
لمصالحها على حساب حلفائها، وقد يكون هو الحال أيضا مع روسيا. كذلك لا يسعنا إغفال
وجود تناقضات بين المعسكرين البري والبحري. فإن جزءا من المساعي الأميركية هي في
منع أوروبا من الإستقلال عن نفوذها، عدا عن الكره التاريخي الذي تضمره للأتراك "كعرق".
كذلك فإن العلاقات الروسية-الصينية لم تكن مثالية حتى في ظل الحكم الشيوعي في
الإتحاد السوفياتي السابق، عدا عن العلاقات المتوترة بين إيران وروسيا طوال قرنين
من الزمن. وبالتالي فإن تسوية بين القطبين الأكبرين في العالم قد لا تكون مضرة
لهما في ظل القلق الذي يشعره كل منهما تجاه طموحات حلفائهما. فإذا تمت تسوية بين
روسيا والاولايات المتحدة تخرج أوروبا وتركيا من المعادلة، فإن الولايات المتحدة
قد تجد نفسها في وضع أفضل للسيطرة على حليفيها، لأن عبور تركيا إلى العالم العربي
سيكون عبر سورية التي تراعي المصالح الأميركية، وهو الحال أيضا مع أوروبا الطامحة إلى
الدخول مجددا إلى المشرق العربي. وبالتالي فإن الرضا الأميركي يصبح ضروريا جدا لكل
من تركيا وأوروبا. في المقابل فإن خروج الصين وإيران إلى البحار عبر بوابة طرطوس
يصبح بحاجة إلى الرضا الروسي، وبالتالي فغن هذا يجعل موسكو في موقع أفضل للسيطرة
على حليفتيها بكين وطهران. وفي كل الحالات فإن موطىء القدم الروسي على شرق المتوسط
لن يغني موسكو عن حاجتها للولايات المتحدة للوصول إلى طرق المواصلات البحرية
العالمية لأن بوابة المتوسط إلى المحيط الأطلسي يبقى رهنا بجبل طارق المسيطر عليه
من قبل الأميركيين، كما أن خروجها إلى البحر الأحمر فالمحيط الهندي يبقى محكوما
بقناة السويس التي تسيطر عليها أيضا الولايات المتحدة الأميركية. إذن هل نرى
أنفسنا مرة جديدة في ظل عالم ذو ثنائية قطبية تحكمه الولايات المتحدة وروسيا؟
___________________________________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق