هل الإيرانيون على حق حين يقولون جميعاً، من مرشد الثورة
أية الله خامنئي إلى أصغر سائق تاكسي في طهران، بأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
"اختراع أميركي من الفه إلى الياء"، أو كما قال منصور حقيقت، نائب رئيس
لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني،" أن "قرار مواجهة داعش كذبة
كبرى أميركية تحاول واشنطن تمريرها في المنطقة"؟
الأحداث المتلاحقة والمذهلة التي شهدها الشرق الأوسط،
تُغذي إلى حد بعيد "نظرية المؤامرة" الحادة هذه.
فاكتساح داعش السريع لمدينة الموصل ومناطق شاسعة من شمال
وغرب العراق، ومارافقه من انهيار مفاجيء للجيش العراقي الكبير، أدى إلى إطاحة رئيس
الحكومة العراقي نوري المالكي الذي انحاز بعد الانسحاب العسكري الاميركي العام
2001 بالكامل إلى طهران على حساب واشنطن. وهذه الخطوة، وما تلاها من نجاح واشنطن
في لعب دور مؤثر في تعيين رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة العراقيين، أسفر
عن ضعضعة النفوذ الأيراني في العراق وأعاد إلى واشنطن المكانة الكبرى التي كانت
لها قبل سحب قواتها من بلاد الرافدين.
وحالة الرعب التي خلقها داعش في كل أنحاء المنطقة، كجزء
من استراتيجيتها العسكرية لزرع "الفوضى والصدمة" في صفوف خصومها، مضافاً
إليها عجز الانظمة العراقية والسورية والإيرانية عن ضبطه، جعل التدخل الأميركي
مطلباً ملحاً لدى كل أو معظم دول المنطقة، بما فيها حتى إيران التي خشيت من التورط
في حرب سنّية- شيعية عامة في العالم الإسلامي إن هي تدخلت مباشرة في العراق.
وهذا التطور، وماتبعه من إعلان الرئيس الأميركي أوباما
عن استراتيجيته لـ"وقف تمدد الدولة الإسلامية ثم إلحاق الهزيمة بها"،
أنهى بشطحة قلم كل الاحاديث عن الانحسار الاستراتيجي الأميركي في الشرق الاوسط
الذي ساد طيلة السنوات الست الأخيرة، وحلّت محلها الآن استراتيجية هجومية أميركية
تخترق ليس فقط كل هذه المنطقة، بل تمتد
كذلك من الصومال وشمال إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا (في إطار خطة عالمية لمواجهة
"الإرهاب" تشبه كثيراً خطة جورج بوش).
وأخيرا، بروز داعش أعاد المبادرة الاستراتيجية في الوضع
الدولي إلى اليد الأميركية. فواشنطن استعادت الآن دورها كشرطي عالمي لحماية النظام
الدولي. وهي أوقفت تقدم إيران والصين روسيا في الشرق الأوسط الذي يعتبر عنق زجاجة
القارة الأوراسية، كمدخل على مايبدو لشن هجوم معاكس على مجموعة معاهدة شنغهاي يمتد
من شواطيء البحر المتوسط إلى بحر قزوين والقوقاز وبحر الصين الجنوبي.
هذا بالطبع علاوة على أنه سيكون من الصعب للغاية إقناع
إيران وروسيا على أن الولايات المتحدة قررت شن هذه الحرب الشاملة في العالم (وهي
حرب بالفعل على رغم أن أوباما يرفض تسميتها كذلك) لمجرد ان داعش قطعت رأس صحافيين
أميركيين إثنين. إذ كان في وسع واشنطن ببساطة أن ترد على هذا الجريمة بغارات جوية
على قادة هذا التنظيم، كما تفعل في الصومال واليمن، وكما فعلت قبل ذلك في باكستان
حين قتلت أسامة بن لادن.
"فخ داعش"
ثمة، إذا، مبررات مقنعة بالفعل لهذه الشكوك الإيرانية.
وعلى رغم أن في وسع الأميركيين وحلفائهم توجيه الاتهامات "التآميرية"
نفسها إلى النظامين السوري والإيراني اللذين لعبا بالفعل أدواراً بارزة في بروز
داعش ونموه في البداية، إلا أنه يبدو أن الأميركيين كانوا الأكثر إفادة من عملية
إفلات داعش من عقاله، كما أفلت تنظيم القاعدة الذي أسسه الأميركيون والسعوديون في
أفغانستان من عقاله بعد الانسحاب السوفييتي من تلك الدولة.
لكن، هل يعني كل ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية مجرد
بيدق في رقعة شطرنج ضخمة؟
أجل. أنه كذلك. لكنه بيدق يحمل مشروعا خاصا به. فكما أن
القوى الإقليمية والدولية تستخدمه لأهدافها الخاصة، يعتقد هو أنه بمقدوره هو أيضاً
استخدام هذه القوى لخططه الخاصة. وهي خطط تبدو طموحة للغاية كان حددها له المنظّر
الأصولي عبد الله عزام، وتبناها من بعده الأردني أبو مصعب الزرقاوي ثم
"الخليفة" أبو بكر البغدادي، وتتضمن شطرين: الأول، إقامة دولة إسلامية
تنطلق من العراق وسورية والأردن أولاً لكن هدفها النهائي هو السيطرة على مكة
والسعودية. والثاني عكس استراتيجية تنظيم القاعدة: بدل الذهاب إلى عقر دار أميركا
لضربها هناك، استدراج هذه الأخيرة إلى مناطق العالم الإسلامي لاستنزافها ومن ثم
إلحاق الهزيمة بها، كما فعل المجاهدون مع الاتحاد السوفيييتي في أفغانستان.
المحلل ديفيد أغناتيوس، المقرّب من البنتاغون، أشار إلى
وجود مثل هذا الاحتمال حين قال (واشنطن بوست" 9-9-2014):
"السؤال الأصعب الآن هو: هل الولايات المتحدة تسير
نحو فخ نسجته الدولة الإسلامية لدفعها إلى شن هجمات تسفر عن حشد الجهاديين حولها
(داعش) في كل أنحاء العالم؟ من كل بيانات الجهاديين يمكن أن نستشف بالفعل أنهم
يحلمون بمثل هذا النزال. ولذا يتعيَّن على واشنطن أن تتأكد من أن كل خطوة تخطوها
ستكون محاطة بأصدقاء وحلفاء مسلمين".
حلفاء، ولكن؟
حسنا. هذا بالتحديد من تفعله واشنطن الآن.
فإجتماع جدة الاستثنائي الذي عُقد الخميس الماضي، وشاركت
به عشر دول عربية بزعامة السعودية وحضور وزير الخارجية الأميركي كيري، أعلن تأييده
لاستراتيجية أوباما لمواجهة داعش، والتي تستند إلى أربع ركائز: توجيه ضربات جوية
إلى قواتها في العراق وسورية، ودعم القوات العراقية والبيشماركة الكردية
والميليشيات السنيّة العراقية والمعارضة المسلحة المعتدلة السورية، وتقوية
الشراكات الإقليمية والدولية لمحاربة الإرهاب في كل المجالات، والمساعدات
الإنسانية للسوريين والعراقيين.
وستعمل واشنطن لاحقاً على حشد دعم بقية الدول الإسلامية
من تركيا وباكستان إلى ماليزيا وإندونيسيا، هذا إضافة إلى حلف الـ40 دولة الذي
تحدث عنه أوباما في خطابه.
بيد أن معظم هذا التحالف الإقليمي- الدولي الكبير لن
تكون له في الواقع أدوار عسكرية مباشرة أو فاعلة على الأرض. فكما أن الولايات المتحدة
ترفض إرسال قوات برية للسيطرة على المناطق التي قد تخليها داعش، كذلك ستمتنع الدول
الحليفة الأخرى عن إرسال قوات إلى العراق أو سورية، وسيقتصر الأمر (في أحسن
الاحوال) على عمليات التجسس والقوات الخاصة (الكوماندوس) والحصار المالي.
بكلمات أوضح: الاستراتيجية العسكرية الأميركية، كما
أوضحها اوباما، ستقوم على شن الغارات الجوية على داعش في العراق (ثم في سورية بعد
شهر من الآن كما أعلن مسؤول أميركي)، تترافق أحياناً مع عمليات للقوات الخاصة
ووكالة "السي. أي. آي". على أن تتولى القوات المحلية (الموالية في العراق
والمعارضة في سورية) شن الهجمات البرية، على غرار مايحدث في الحرب الاميركية في
الصومال واليمن.
بيد ان المعضلات التي تواجه الولايات المتحدة في هذه
الاستراتيجية تبدو كبيرة وكأداء. فسيكون عليها في العراق ضمان ألا تتحوّل الحرب ضد
داعش في العراق إلى انتصارات للشيعة وإيران على حساب السنّة والأكراد، كما عليها
أن تضمن ألا تتحول الضربات لداعش في سورية إلى مكاسب لنظام الأسد أو لجبهة النصرة
(القاعدة). وهذا معادلة ستكون صعبة للغاية وتتضمن مضاعفات غير محسوبة، خاصة حين
نضع في الاعتبار أمرين: الأول، أنه ليس ثمة ضمانة على الاطلاق بأن الحكومة
العراقية الجديدة ستكون قادرة بالفعل على بناء جيش وطني حقيقي وعلى إعادة بناء
الدولة على أسس وطنية لاطائفية أو على الأقل طائفية متوازنة تُرضي السنّة
والأكراد. والثاني، أن صعود داعش والنصرة في سورية، بدعم خليجي (ويقال تركي أيضاً)
واسع، أضعف إلى حد كبير الجيش السوري الحر والفصائل الأخرى المعتدلة. ثم أنه ليس
ثمة ضمانة بأن تتمكن القوات السورية التي تدريها السي. أي. آي في الأردن وتركيا
ويبلغ عددها حت الآن 4 آلاف، ستكون قادرة على ملء الفراغ الذي ستخلفه داعش، خاصة
في مدينة حلب الاستراتيجية.
كذلك، الحلفاء في هذا التجمع ليسوا حلفاء في الواقع.
فالخلافات بين السعودية وقطر حادة، وكذلك بين السعودية وتركيا، وبين مصر وقطر، وبين
دول الخليج والعراق، بل حتى بين هذه الدول وأميركا بسبب تذبذب مواقف هذه الأخيرة
في الشرق الأوسط، كما حدث في سورية ومصر والعراق وغيرها.
أين روسيا وإيران؟
بيد أن العقبات لاتتوقف هنا. فهناك مواقف إيران وروسيا
والصين التي تم استبعادها من التحالف الإقليمي- الدولي الواسع ضد الإرهاب، على رغم
أنها أعلنت عن دعمها للخطوات الآيلة إلى مجابهته. وبالتالي، فهي ستنظر بعين الحذر
والقلق الشديد لما ستفعله القوات الأميركية في الشرق الأوسط.
وهذا يعني أن الحرب الأميركية ضد داعش، قد تثير في الوقت
نفسه صدامات دولية إن من تحت الطاولة أو فوقها، خاصة إذا ما بدأت الغارات
الأميركية في سورية. وسبق أن أعلنت كل من روسيا والصين أنهما تدعمان الخطوات ضد
الأرهاب، شريطة أن يتم ذلك "في إطار الشرعية الدولية". أي أنهما، بكلمات
أخرى، ستعارضان الغارات في سورية حتى ولو كانت ضد داعش.
وفي حال تفاقمت هذه الصدامات، والأرجح أنها تسير في هذا
الاتجاه بسبب الصراع الغربي- الروسي على أوكرانيا والمجابهات الاقتصادية
والالكترونية بين الصين وأميركا، فسيتحول الشرق الأوسط مجدداً إلى ساحة الصراع
الرئيسة في العالم في خضم السباق بين "الامبرياليات القديمة والجديدة"
على النفط والموارد الطبيعية والأسواق والمواقع الاستراتيجية، بعد أن بدا لفترة أن
هذه الصراعات قد انتقلت إلى شرق آسيا، خاصة مع سياسة الاستدارة شرقاً ( Pivot) التي تبناها أوباما منذ العام
2009.
إلى أين؟
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
الكثير.
فهي تعني، أولاً، أن الولايات المتحدة عادت بقوة إلى ساح
الشرق الأوسط، بعدما بدا أنها في مرحلة انحسار غداة حربي العراق وأفغانستان.
ثانياً، أن التوجهات الأميركية ستقتصر خلال المرحلة
الحالية على إدارة الحروب الأهلية العربية من فوق، أي عبر سلاح الجو الأميركي الذي
يفترض أن يحدد شروط وحدود المعارك، كما فعل حين منع داعش من التقدم إلى أربيل
والمناطق الكردية (حيث يكمن ثلث الاحتياطي النفطي العراق الكبير، ومراكز الشركات
ووكالات الاستخبارات الاميركية والإسرائيلية)، أو من الزحف على بغداد.
ثالثاً، أنه لن يكون مضموناً على الأطلاق أن يقتصر
التدخل الأميركي على الطيران وعمليات القوات الخاصة، إذ سيكون ضرورياً في حال فشل
هذه العمليات ضخ قوات برية أميركية. وقد بدأ هذا السيناريو يزحف ببطء بالفعل، بعد
أن قفز عدد القوات الاميركية من مجرد عشرات بعد سقوط الموصل إلى أكثر من ألف الآن
وسيرتفع إلى 1500 بعد قرار أوباما إرسال 500 "خبير" آخر.
رابعا، وبسبب التعقيدات الشديدة المحيطة بالحروب الأهلية
العربية الراهنة، مع امتداداتها الإقليمية والدولية، ستكون الانفجارات الكبرى واردة
في كل حين، إلا إذا ماتوصلت أميركا وروسيا والصين وإيران إلى قناعة بضرورة إغلاق
ملف هذه الحروب، عبر صفقات كبرى يتم فيها تقاسم الأدوار (ولكن ليس حتماً الموارد
النفطية التي هي حرز حريز للامبراطورية الأميركية).
أي: حين تقتنع الدول الكبرى والإقليمية بأنه لايمكن
الخروج من هذه المعمعة بمنتصر واضح أو مهزوم واضح، ستنفتح أبواب الحلول على
مصراعيها أمام العراق وسورية وبقية دول المنطقة. لكن يبدو أن هذا سيكون عملية
مديدة أو بعيدة، لأن مايجري الصراع حوله الآن لايقل عن كونه صدامات عنيفة حول النظام
الدولي الجديد وطبيعته وتركيبته.
ثم: بما أن الولايات المتحدة لاتبدو عازمة على إغلاق ملف
الإرهاب كليا، عبر حلول سياسية- اقتصادية وثقافية وإنسانية، فإن حديثها عن أن هذه
الحرب ستستمر أكثر من ثلاث سنوات (وكذلك حديث رئيس الأركان الأسترالي السابق عن
"حرب المئة عام" مع الإسلام الراديكالي)، توحي وكأن وجود التطرف
الإسلامي "أمر ضروري" لتحقيق تماسك المجتمعات الأميركية والأوروبية بعد
زوال الخطر الشيوعي، كما شدد على ذلك برنارد لويس وصموئيل هانتيغتون، خاصة وأن
العولمة تمعن تمزيقاً بكل أنسجة المجتمعات الغربية الحالية.
وهذه النقطة الأخيرة بالتحديد تعطي نظرية المؤامرة
الإيرانية التي تحدثنا عنها في البداية نكهة خاصة للغاية، ومثيرة للغاية، وأيضاً
مخيفة للغاية.
سعد محيو- بيروت