مقال اليوم
-
I -
ثمة حقيقة كبرى كشفت عنها أعمال العنف الأخيرة في مصر:
الدولة المصرية، بمؤسساتها، وهيبتها، وأدوارها، ناهيك
بشرعيتها، انهارت أو تكاد؛ والمجتمع المصري بطبقاته الوسطى والفقيرة وطفرة الشباب
الديمغرافية الكاسحة فيه (أي الغالبية الكاسحة من الـ90 مليون مصري)، لم يعد
قابلاً للحكم لاوفق صيغ الجمهوريات السابقة ولا الملكية، ولا الآن مع صيغة سلطة
الإخوان المسلمين.
فهذا المجتمع أسقط حاجز الخوف من الفرعون، المُتجسِّد
رمزياً في مراكز الأمن والشرطة التي تُحرق مع كل مظاهرة، وأسقط معه إمكانية تعايشه
مع المفهوم القديم للدولة، حتى ولو أضفى عليه الإخوان كل تلاوين الشرع وأحكام
الشريعة وبريق "الاسلام هو الحل".
كتب مايكل حنا، من مركز الأبحاث الأميركي "سينتشري
فاونداشن"(فايننشال تايمز/27-1-2013): "بعد الثورة، كان ثمة فرصة لإصلاح
النظام، الأمر الذي تطلّب تضامناً سياسياً. بيد أن مثل هذا التضامن سرعان ما تفكك
بعد سقوط مبارك. والآن ثمة أزمة سياسية وشرعية الدولة تلاشت".
هذه، من أسف، كانت حصيلة السنة الأولى لحكم الرئيس محمد
مرسي: عجز مطبق عن بلورة إجماع وطني حول برنامج نهوض اقتصادي وسياسي ودستوري؛ فشل
في التخلص من عقلية المعارضة السرية التي عاشها الإخوان طويلاً، والتي جعلت مرسي
يشك في وجود مؤامرة ومتآمرين خلف كل زاوية في البلد؛ وتحويل مؤسسة الرئاسة إلى
قيادة وطنية من خلال مواصلة الاعتماد على "الحكومة الخفية" لجماعة
الإخوان.
-
II -
إن الإشارة إلى فرضية أن المجتمع في وادٍ والدولة في
وادٍ آخر، قد توحي بشىء من التبرير والتبرئة للأخوان المسلمين، لأنها تعني أن
هؤلاء ليسوا هم من خلق هذه الأزمة- الفجوة الخطيرة. لكن الواقع ليس على هذا النحو،
إذ أن هذه الجماعة لم تدرك حجم ومدى الزلزال الذي حدث في ثورة 25 يناير، واعتقدت
(ولاتزال) أن في وسعها نقل البلاد من الثورة إلى الاستقرار عبر إعادة انتاج الدولة نفسها مع تعديلات "إخوانية"
عليها.
بيد أن هذا يثبت الآن أنه هدف مستحيل. فالخيار الحقيقي
في مصر هو الآن بين أحد أمرين: إما إقامة دولة جديدة وعادلة وتنموية-انتاجية تلبي
مطالب وتطلعات الغالبية الكاسحة من الناس، أو اللادولة والفوضى والحرب الأهلية.
إما وفاق وطني يستند إلى تسوية تاريخية وعقد اجتماعي جديدين بين كل مكونات المجتمع
المصري، أو الدخول رسمياً في مرحلة الدولة الفاشلة والانهيار الاجتماعي.
بالطبع، هناك دوماً الخيار الثالث المُتمثِّل في انقضاض
القوات المسلحة على السلطة مجددا، تحت شعار انقاذ البلاد من الفوضى. بيد أن هذا
الاحتمال القوي لن يسوي الأمور، لأن القيادة العسكرية ستقع هي الاخرى في فخ
الحقيقة التي أشرنا إليها أعلاه: انهيار صيغة الدولة المصرية القديمة، واستحالة
إعادة البناء على أساسها.
لكن، إذا ماواصلت جماعة الإخوان المسلمين تخبطها الذي
يشبه السباحة في حوض لاماء فيه، وإذا ما استمرت المعارضة في التركيز على مطالب
"انتهازية" (تتعلق أساساً بحصتها من مقاعد البرلمان) بدل طرح برنامج
إعادة بناء وطني شامل، فمن يمكنه القيام بمهمة بناء دولة جديدة قادرة وحدها على
انقاذ البلاد، عبر برنامج انتاجي اقتصادي يركّز على الصناعة والزراعة، وبيروقراطية
نظيفة وكفؤة وفعّالة، ودستور وطني جامع؟
لايبدو، من أسف، أن مثل هذه القوى متوافرة حاليا. وهي إن
كانت موجودة فبصوت ضعيف يكاد لايسمع، وبتأثير محدود للغاية على ديناميكيات التغيير
الراهنة في البلاد.
وهذا الآن ماسيضع عملية الانتقال إلى الديمقراطية في مهب
الريح، ويشرع الأبواب والنوافذ أمام احتمال اندلاع ثورة جديدة، أو حتى سلسلة ثورات
في داخل ثورة واحدة، تتسم بالعنف الطبقي والفوضى الاجتماعية وحتى بالنزاعات
المسلحة (السلاح يتدفق الآن على مصر من كل حدب وصوب).
والأرجح أن هذا ماسيحدث حتماً إذا ما فشلت نخب الموالاة
والمعارضة في صك العقد الاجتماعي الجديد وفي تحديد ملامح الدولة الجديدة. وحينها،
سيكون عنف الشارع هو القابلة القانونية الوحيدة لدولة مصرية جديدة.
والاختبار الأول لهذا الاحتمال سيحدث بعد غد (الأحد)،
حين سيتضح ما إذا ماكان فرار الآلاف من المصريين الموسرين خلال الأيام القليلة
الماضية من البلا\ عبر مطار القاهرة، هو نذير بأن ماتخوّف منه الأزهر من اندلاع
الحرب الأهلية (أو على الأقل شكل مصري مميز منها) سينقلب أم لا إلى حقيقة واقعة.
سعد محيو