للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأربعاء، 12 مارس 2014

قَطَرْ: آفاق ومحصلات "المقامرة الكبرى"




عمد مئات من القراء الأعزاء مشكورين إلى المقالات التي نشرها موقع "اليوم، غداً" عن قطر العام 2013، ريما كخلفية لإلقاء الأضواء على الأزمة القطرية- السعودية الراهنة.
نعيد هنا نشر هذه المقالات الثلاث، على أن نعود بعدها إلى مقاربة النتائج والمحصلات المحتملة للأزمة الراهنة.                        
                                                                سعد محيو

من مكّة والشارقة إلى دبي وعُمان وقَطَرْ: مفاجآت لاتتوقف
(11-2-2013)
- I -
منطقة الخليج هي حقاً أرض المفاجآت، كما كان يردد الراحل الكبير عبد الرحمن منيف.
فمن قلب صحرائها القاحلة، انطلقت فجأة ثورة حوّلت قبائل وعشائر متنازعة على الماء والكلأ إلى أمة مقاتلة، نجحت في إلحاق الهزيمة بأكبر قوتين عظميين( البيرنظية والفارسية) في القرن السابع الميلادي ، وقلبت منذ ذلك الحين موازين القوى الدولية رأساً على عقب.
وبعد مفاجأة الأسلام، جاءت مفاجأة النفط في أوائل القرن العشرين، فتبيّن أن شبه الجزيرة الصحراوية تسبح فوق بحيرة هائلة من وقود الحضارة الحديثة. وهكذا خرجت المنطقة من سبات حضاري دام نيفاً و1300 سنة،  وقُذِف بها مباشرة من ظهر الجمل والمجتمع التقليدي المستند إلى الكفاف وشظف العيش، إلى قمرة صاروخ الحداثة وثروات ألف ليلة وليلة.
لكن قصة المفاجآت لاتتوقف هنا.
إذ كيف لنا أن نفهم انبثاق دولة- مدينة كدبي، بنت نفسها كمعقل لليبرالية الاجتماعية (حيث النساء يتجولن في الشوارع بالشورت، وحيث الحانات والكحول في كل مكان)، على بعد رمية حجر من مجتمع سعودي يعيش في حالة خنق  لاليبرالي اجتماعي كامل؟
وكيف نفسر وجود إمارة، كالشارقة، على بعد كيلومتر واحد من دبي، اختارت الثقافة عنواناً لتبرير الوجود (على رغم ان غابات الأسمنت التجارية اجتاحتها أخيرا)، وبنت أسواقها وفق التراث، وباتت أحد مراكز الانتاج الفكري والثقافي، فدمجت عبر ذلك بنجاح بين الحداثة وبين المفهوم الحضاري للإسلام؟
لا بل قبل ذلك، في أي أي إطار يجب أن نضع حركة القرامطة في شبه الجزيرة، التي قد تكون أول حركة اشتراكية واعية لذاتها في التاريخ، ومعها الآن انتفاضتها الشعبية التي أذهلت الجميع بمدى ديمومتها وإصرارها؟
وماذا عن عُمان التي تفردت عن باقي شبه الجزيرة في كون نحو 75 في المئة من سكانها من المذهب الأباضي، الذي هو بالفعل بمثابة وثيقة تاريخية حيّة تدين الحرب الأهلية السنّية- الشيعية المستعرة منذ نيف و1300 عام، والذي بنى دولاً عدة، ولايزال له وجود الآن في جبل نفوسة في ليبيا، ووادي ميزاب في الجزائر، وبعض المناطق في شمال أفريقيا.
بالطبع، العديد من الفرق الإسلامية تطلق على الأباضية نعت الخوارج. لكن، وعلى رغم أن الأباضيين يتقاطعون مع الخوارج في رفض التحكيم بين علي ومعاوية، إلا أنهم يعتبرون أنفسهم هم "أهل الحق والاستقامة" في الإسلام وليس من يتهمونهم بالخروج. وهذا مايعطيهم حقاً لونهم التاريخي والتراثي الخاص المهم والمميز للغاية. إذ أنهم، كما أشرنا، بمثابة نافذة جميلة للاطلالة على كل التاريخ الإسلامي بأشكاله السياسية والإديولوجية والثقافية كافة من زاوية مختلفة تماما.
وقل الأمر نفسه عن اليمن، الذي يخترن في جوفه ليس فقط معظم أصول الشعوب العربية الحالية في المشرق والمغرب، بل أيضاً ربما أصول التوراة التي جاءت منه ومن السعودية، كما يقول المؤرخ كمال الصليبي، والتي كانت بداية الأديان التوحيدية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
- II -
كل هذه كانت محطات مفاجئة في التاريخ البشري، وهي أشبه بالعواصف الصحراوية التي تنطلق دونما سابق إنذار.
لكن، ثمة مفاجأة أخرى لاتقل أهمية عن كل ما ذُكر: إنه قطر التي حوّلت نفسها هي الأخرى وبين ليلة وضحاها من رقعة صحراوية هامشية إلى قوة إقليمية كبرى، على رغم أن سكانها الإصليين لايتجاوزون عدد سكان حي صغير في الدول التي يتدخل فيها الآن قادة قطر.
وبسبب حداثة وراهنية هذا البروز القطري غير المتوقع، فهي تحتاج إلى وقفة خاصة.
(غدا نتابع)

                                  ___________
قطر الماكافيلية تُقاتل وتُغامر.. وتُقامر
(الحلقة- 2 من "مفاجآت شبه الجزيرة العربية")
(12-2-2013)
- I -
حين سُئِل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق  الحريري عن أسباب انغماسه في العمل السياسي، أجاب بصراحة:" اكتشفت فجأة أن الأموال الطائلة التي راكمت لامعنى لها في حد ذاتها، ولذا قررت أن أعطيها معنى عبر السياسة".
وحين سُئِل هنري كيسينجر عن الأسباب التي تجعل السياسيين يعشقون العمل السياسي إلى حد الهوس، قال:"هذا لأن السياسة تأتي بالسلطة. والسلطة هي أهم "منشِّط جنسي" على الأطلاق(...)".
هل هذه المعطيات هي التي تُملي أيضاً دوافع تحوّل قطر إلى آخر مفاجأة من المفاجآت المتصلة لشبه الجزيرة العربية التي تحدثنا عنها بالأمس؟ (راجع "اليوم، غدا" - 11-2-2013).
الأرجح أن الأمر كذلك، لكن ليس فقط لأن الأمير حمد بن خليفة ورئيس وزرائه حمد بن جاسم وبقية حلفائهما في أسرة آل ثاني الحاكمة، يريدون منح أموالهم الطائلة معنى ما أو التمتع بمزايا السلطة فقط، بل لأنهم يعتقدون أيضاً أن تحويل دولة قطر الصغيرة إلى فكرة كبيرة إقليمياً ودوليا، يوفّر لها الأستقرار في الداخل ويفتح أمامها أبواب ونوافذ جديدة لمصالحها المالية والتجارية في الخارج.
من رحم هذه المفاهيم وُلدت العام 1995، حين انتزع حمد السلطة من والده، النزعة البراغماتية القطرية المتطرفة التي تطبِّق حرفاً بحرف تعاليم نيقولو ماكيافيلي، أبو علم السياسة الحديث، التي تستند أساساً إلى مقولة الغاية تبرر الوسيلة.
- II -

غاية القيادة القطرية متعددة الرؤوس: العظمة الشخصية؛ القيادة الإقليمية والتواجد في كل أنحاء المنطقة؛ البروز كلاعب دولي، وتوسيع آفاق الفرص الاقتصادية والتجارية القطرية إلى مالانهاية عبر ممارسة دور سياسي نشط وقوي في المنطقة والعالم.
أما الوسيلة، فهي وسائل:
- وضع ثروات البلاد الطائلة، ومعها فضائية الجزيرة، في خدمة السياسة الخارجية، لكن بشرط أن يؤدي الاستثمار في هذه الأخيرة في نهاية المطاف إلى خدمة ثروات الأسرة. وهذا تحقق بنجاح، على سبيل المثال، في ليبيا، حيث عملت قطر جنباً إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا وحلف الأطلسي على تمويل وتدريب الثوار هناك، وهي تقطف الآن الثمار في شكل حصولها على أفضليات اقتصادية.
- عدم التردد في إبرام تحالفات مع دول وقوى متناقضة للغاية في مابينها: وهكذا، كانت قطر تدعم حركة حماس، وتقيم في الوقت نفسه علاقات وثيقة مع إسرائيل؛ وتستقبل قاعدة عسكرية أميركية ضخمة، فيما هي تنسج علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع إيران؛ وتستقطب بأموالها مروحة واسعة من القوميين العرب واليساريين والعلمانيين في المنطقة، فيما تشرع كل أبوابها أمام جماعات الإخوان المسلمين، من مصر إلى تونس مروراً بسورية.
- على رغم أن الدوحة مهجوسة بفكرة الاستقلال عن الجار السعودي الكبير المهمين على مجلس التعاون الخليجي، وتجد نفسها في حالة تنافس معه على كسب قلوب وعقول مختلف أنواع الحركات الإسلامية، إلا أنها تمكّنت في الآونة الأخيرة من إيجاد بعض القواسم المشتركة معها، كمعارضة النظام السوري مثلا.
- وأخيرا،  جاء الدعم (بل والتزعم الإعلامي) القطري لثورات الربيع العربي، ليكون النموذج الفاقع والصارخ عن النزعة البراغماتية القطرية المطلقة. فهذه الإمارة الوهابية المغرقة في نزعة المحافظة، والتي يحكمها أمير بشكل أوتوقراطي فردي مع حفنة من أقاربه، تحوّلت فجأة (ولكن في الخارج فقط) إلى بطل الديمقراطية والحريات في المنطقة العربية، وأصبح الأمير الأوتوقراطي المحافظ زعيم الثورات والانتفاضات والانقلابات. بكلمات أخرى: قطر كانت تتزعم ثورات الربيع العربي في الخارج، وتشن ثورات مضادة ضد هذا الربيع في الداخل.
صحيح أنها تتحدث منذ العام 2008 عن مجلس شورى يجري انتخاب ثلثيه بالاقتراع المباشر، وأن ثمة وعداً الآن بأن تجري هذه الانتخابات هذه السنة، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن الأمير حمد لايوحي لأحد بأنه ينوي في أي وقت قريب التخلي ولو عن جزء من صلاحياته  المطلقة، أو حتى عن حصانته ضد أي نقد. ومن يعتقد غير ذلك، يجب أن يتذكّر مصير الشاعر منكود الحظ محمد بن الذيب العجمي الذي اعتقد أن تزعم قطر للربيع في مصر وتونس وليبيا، يعني ربيعاً أيضاً في قطر.
- III -

الآن، وقد أوردنا مختلف المعطيات التي خلقت التجربة القطرية المفاجئة، والتي هي في الواقع مغامرة أو حتى مقامرة من الطراز الأول، نأتي إلى سؤالين حاسمين:  علامَ تستند القيادة القطرية، في إطار لعبة موازنين القوى، في مضيها قدماً في هذه المغامرة؟ وماطبيعة المخاطر الجمة التي ستتعرض لها وهي تخوض غمار هذه اللعبة الخطرة؟
(غداً حلقة أخيرة)
_____________

هل يخسر المُقامر القَطَري كل شيء؟
(الحلقة- 3 من "مفاجآت شبه الجزيرة العربية")
(13-2-2013)
- I -
تساءلنا في مقال الأمس (راجع "اليوم، غدا"- 12-2-2013): علامَ تستند القيادة القطرية في مغامرتها الكبرى للتحوّل إلى قوة إقليمية كبرى؟ وماطبيعة المخاطر الجمة التي ستتعرض إليها وهي تخوض غمار هذه اللعبة الخطرة؟
حتماً هي لا تستند إلى تعداد شعبها، الذي بات على نحو خطر أقلية مهددة بـ"الانقراض" بفعل الخلل الهائل في التركيبة السكانية (سكان قطر 1،7 مليون جلّهم  الأعظم من الأجانب)؛ ولا إلى طبيعة نظامها السياسي الذي لايختلف بشىء عن باقي مشيخات الخليج (عدا الكويت) من حيث غياب الديمقراطية، وسيادة القانون، والمشاركة الشعبية في صنع القرار.
الشيخان، حمد بن خليفة وحمد بن جاسم، ينطلقان في هذه المغامرة من عاملين إثنين:
الأول، وهو الذي وصفناها أمس بأنه البراغماتية الماكيافيلية المطلقة، التي دفعت الدوحة إلى دعم ثورات الربيع العربي، ليس بالطبع حباً بالثورات والنزعة الثورية، بل لأنها اشتمت رائحة الدم الدولية (الأميركية أساساً) الداعمة لهذه الانتفاضات، فقررت ببساطة الوقوف إلى جانب المنتصرين والابتعاد عن المهزومين.
والسبب الثاني، الأخطر، قد يكمن في رهان الدوحة الضمني على أن الخريطة الشرق أوسطية الجديدة، التي بدأت معالمها تتضح رويداً رويداً بعد تقسيم السودان والتفتيت الواقعي للعراق (وقريباً لسورية وغيرها)، ستتكوّن من دول صغيرة أو دويلات أصغر. وهذا ما سيقلب السلبية المطلقة لصغر حجم الدولة القطرية إلى إيجابية مطلقة، حيث أنها ستتحوّل (بفضل ثروتها الأسطورية والدعم الأميركي لها) إلى درجة تاج هذه الدويلات والطرف الأقوى والأكثر جاذبية وتأثيراً بينها.
تخيّلوا، مثلاً، كيف سيكون موقع قطر ودورها إذا ماتحققت نبوءات المتنبئين بأن السعودية قد تنقسم قريباً إلى ثلاث أو أربع أو حتى خمس دول صغيرة. ألن يكون ذلك انتصاراً مجلجلاً للشعار "الصغير هو الجميل"؟
- II -
المغامرة القطرية، إذا، لاتنطلق من فراغ أو من رهانات فارغة. لكن، هل هذا يعني أن مشروعها سائر حتماً نحو النجاح؟
كلا.
فالعقبات كبيرة، والمخاطر أكبر.
أولى هذه العقبات والمخاطر هي احتمال تحوّل هذا البلد إلى هدف مفضل للأرهاب. وهذا ليس  احتمالاً افتراضيا. فلو أن معمر القذافي نجا بجلده من المقصلة الأطلسية بفعل صفقة في اللحظة الأخيرة، لكان الآن يعيث فساداً وتخريباً داخل الدولة القطرية.
وبالمثل، في حال توصل نظام بشار الأسد، ومعه داعموه الإيرانيون، إلى أن الحل الوحيد لوقف الدعم اللوجستي المالي والعسكري القطري للمعارضة السورية، فهم قد يفتحون النار في كل مكان، ومن أي مكان، على آل خليفة.
لا بل أكثر: في لحظة ما، قد تتقاطع مصالح السعودية مع مصالح إيران على ضرورة رحيل هذا الفرع من آل خليفة. وحينها، ستكون الدوحة هي ساحة الصراع الإقليمي بدل أن تكون بطلته.
علاوة على ذلك، لايجب أن نسقط من الاعتبار أن الصراع السياسي في قطر لايجري بين الحاكم والمحكومين، ولابين  السلطة والشعب، بل بين آل خليفة وآل خليفة، أي داخل الأسرة الحاكمة نفسها، حيث التنافس على أشده على الثروة والسلطة. وبالتالي، أي نكسة في السياسة الخارجية، قد تعكس نفسها مباشرة أزمة في الداخل القطري بين كتل الأسرة المتنافسة.
رب قائل هنا أن الثروة الأسطورية، الناجمة عن كون قطر أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في العالم (تنتج 77 مليون طن سنويا، أي 30 في المئة من الطلب العالمي) وعن توافر صندوق ثروة سيادية يبلغ 80 مليار دولار وأسهم في كبريات الشركات العالمية، ستحصّن الحمدين ضد أي هزات سياسية أو أمنية.
لكن حتى هنا الأمر غير مؤكد. وهذا ليس فقط لأن نمو الناتج المحلي الإجمالي القطري انخفض على نحو كبير العام 2012، كما انخفض معه النشاط الاقتصادي بنحو 40 في المئة، بل لأن الانقلاب الذي أحدثه التطور التكنولوجي الأميركي في مجال استخراج الغاز الطبيعي والنفطي الحجري ( Shale) بدأ يغيّر موازين قوى الغاز في العالم.
فقد قفز انتاج الغاز الحجري في أميركا من 15 مليار قدم مكعب يومياً العام 2010 إلى 25 مليار قدم مكعب الآن.  ويتوقع أن تصبح الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً من الغاز الطبيعي العام 2015 ومصدّرة أولى له العام 2020.
المسؤولون القطريون، وعلى رغم اعترافهم بأنهم فوجئوا بهذا التطور، إلا أنهم قالوا أن هذا لن يشكل خطراً على ثروة الغاز القطرية. لماذا؟ لأن الدول الأخرى المرشحة لأن تحذو حذو الولايات المتحدة في مجال الغاز الحجري، وهي الصين والأرجنتين وبولندا، ستواجه عقبات كأداء منها نقص المياه (التي تستخدم بكثافة لتفتيت الغاز الحجري)، ونقص البنى التحتية اللازمة لذلك خاصة المواصلات، وتركُّز السكان في أماكن الانتاج، ونقص العمالة المتخصصة.
كل هذا قد يكون صحيحا. لكن الصحيح أيضاً أن التكنولوجيا الأميركية فتحت باباً لن يغلق، في عالم يتخوّف من وصول وقود القرنين العشرين والحادي والعشرين (النفط والغاز) إلى ذورة انتاجه فيبدأ بالتالي رحلته الانحدارية نحو النضوب. وهذا ماسيدفع الدول الصناعية الظمئى إلى الطاقة إلى العمل على تخطي كل العقبات للإفادة من هذا المورد الجديد.
وهذا سيعني ماسيعنيه على مستوى أسعار الغاز وامداداته في العالم، الأمر الذي سيضع الانفاق القطري الراهن على السياسة الخارجية في موقف حرج.
- III -

ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: في لحظة ما، أو بعد تطور ما، سيكون على القيادة القطرية الحالية أن تعيد تقنين طموحاتها الشخصية والاستراتيجية كي تتواءم مع إمكاناتها الحقيقية أو الثابتة.
وما لم تفعل ذلك، ستتحوّل المغامرة القطرية المثيرة الراهنة إلى مقامرة خطرة.
وكما هو معروف، المقامر قد يربح كل شيء، لكنه قد يخسر كل شيء أيضا.
سعد محيو  
_____________________________________


الاثنين، 10 مارس 2014

الصين واليابان: ضجيج جيو-استراتيجي خَطِر




فيما جل الأنظار الدولية تتجه نحو قوس الأزمات الأوراسي الممتد من أوكرانيا والقوقاز إلى سوريا وإيران، ثمة مرجل يغلي في منطقة أخرى من العالم ويهدد بتفجير أخطر صراعات جيو- استراتيجية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى: شرق آسيا بين الصين واليابان.


كيف؟ لماذا؟
بالدرجة الأولى لأن اليابان، وبدفع من التغيرات البطيئة ولكن الكاسحة، التي تسري في بدن النظام العالمي هذه الأيام، بدأت تخطط لتحويل قوتها الاقتصادية الثالثة في العالم إلى قوة عسكرية ضخمة مجددا.
حتى الآن، بلاد الشمس لاتزال تعيش تحت مظلة الحماية الأمنية الأميركية. لكنها إذا قررت التحول اليوم إلى قوة عظمى عسكرية،  فهي قادرة غداً على تحقيق ذلك في برهة وجيزة بفعل قدراتها المالية وتكنولوجتها المتطورة وانتاجيتها الاقتصادية. وحتى في هذه المرحلة، وعلى رغم أن البند التاسع من الدستور يحظر على اليابان العودة إلى العسكرة أو إعلان الحرب أو استخدام القوة العسكرية في الشؤؤن الدولية، فإنها تنفق 40 مليار دولار على الشؤون الدفاعية، وهذا أعلى رقم في العالم بعد الولايات  المتحدة.
ثمة عاملان أخران، إضافة إلى تراجع القوة الأميركية، يدفعان اليابان إلى العمل على لعب دور أكبر في النظام العالمي، يتغذيان من بعضهما البعض: الأول بروز جيل جديد من القادة السياسيين اليابانيين الذين يريدون طي صفحة التنصل من الماضي الامبريالي الياباني الذي دام قرناً من الزمن، على رأسهم رئيس الوزراء الحالي شينزو أبي الذي يداعب بقوة مشاعر القومية اليابانية ويدعو إلى تغيير السياسة الخارجية اليابانية. والثاني، تصاعد وتائر المجابهة بين اليابان والصين الصاعدة.
في مؤتمر منتدى دافوس الأخير، فاجأ أبي العالم حين شن حملة عنيفة على الصين متهماً إياها بأنها ذات نزعة عسكرية وعدوانية، مشيراً إلى أن الصين واليابان تشبهان ألمانيا وبريطانيا عشية الحرب العالمية الأولى: فهما متزوجتان اقتصادياً  لكنهما مطلقتان استراتيجيا. وقد ردت الصين بالمثل، واتهمت اليابان بأنها تريد العودة إلى "ماضيها العسكري الامبريالي البشع" في آسيا.
بيد أن الأمور لم تقتصر على الأقوال بل بدأت تنتقل إلى الأفعال.  ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أعلنت الصين عن إنشاء منطقة محظورة على الطيران في شرق آسيا من دون الحصول أولاً على إذن السلطات الصينية. وقد شمل ذلك المناطق المتنازع عليها بين طوكيو وبيجينغ. وفي الشهر الذي تلا ذلك، قام أبي بزيارة ضريح ياسوكوني الذي تقول الصين وبقية الدول الآسيوية بأنه يضم رفاة مجرمي الحرب اليابانيين، وأثار ذلك موجة من الغضب في الصين والكوريتين.
صحيح أن المحللين لايتوقعون إلى تصل الأمور بين هذين العملاقين إلى درجة الانفجار العسكري بسبب الاعتماد الاقتصادي المتبادل بينهما(اليابان لديها 23 ألف شركة ضخمة عاملة في الصين يعمل فيها 10 ملايين صيني)، إلا أنهم يشددون على أن النزاع الياباني- الصيني قد يكون، كما ألمعنا، أخطر نزاع جيو- سياسي في العالم لأنه يجد جذوره في عداوة تاريخية لايبدو أن لها حلا. ووفقاً لبحث في العام 2014 لمؤسسة بيو، فإن 6 في المئة فقط من الصينيين ينظرون بإيجابية إلى اليابان، و5 في المئة فقط من اليابانيين ينظرون بإيجابية إلى الصين.
وثمة نقطة قد تكون أخطر: كلا الطرفين يستخدمان النزاع لخدمة أغراض داخلية: الصين لتفريغ الشحنة القومية الفائضة لدى سكانها وتعزيز الشرعية الشعبية لنظامها، ولتبرير مواقفها اللينة مع الولايات المتحدة. واليابان تستخدم الصعود الصيني كفزاعة لاستنهاض العصبية القومية اليابانية، بهدف استعادة دورها العالمي. وإذا ماتطابق هذا التسابق على استثارة الحمى القومية مع  استمرار تراجع الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الطرفين، فإن هذه ستكون وصفة ممتازة كي تعلق قرون العملاقين في اشتباك لافكاك منه.
 وفي حال حدث ذلك، سيعني ذلك أن ثمة ضوءاً أخضر أميركياً لليابان كي تتسلح مجدداً لموازنة الصعود الصيني، في إطار تجديد "الامبريالية الجماعية" الأميركية- الأوروبية- اليابانية(التعبير لسمير أمين).
وحينها، ستدخل "نهاية نهاية التاريخ" فصلاً جديداً من أخطر فصولها.

_____________


الجمعة، 7 مارس 2014

صباحي والسيسي وبينهما .. "الكومبرادور"





القاهرة- سعد محيو
ماذا بحثت أنت والمشير السيسي؟
هذا كان أول سؤال ملحاح طرحناه، نجاح واكيم وأنا، على حمدين صباحي، مرشح الرئاسة المصرية الأكثر حيوية ونشاطاً، والذي تعج الأحاديث عن جهود وساطات كثيفة لإيرام صفقة "تقاسم الحكم" بينه وبين السيسي، كما بوتين ومدفيديف في روسيا.
كنا في حفل عشاء اقتصر على الأهل والأصدقاء في منزله المتواضع في محافظة الجيزة، وهو المنزل الذي ميّزه عن كل مرشحي الرئاسة السابقين واللاحقين (عدا عبد المنعم أبو الفتوح)، من أحمد شفيق ومحمد مرسي إلى عمرو موسى، الذين يقطنون فللاً ودارات فخمة في القاهرة.
رد حمدين، الذي يتسم بذاكرة فوتوغرافية وكاريزما شعبية: "الاجتماع الذي استغرق زهاء الساعتين (قبل نحو الشهرين)، تركز في جلّه تقريباً على الشأن الاجتماعي، ومستقبل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومسألة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه( نحو 172 دولارا).
- هل كان السيسي متجاوباً مع هذه الطروحات؟
- صباحي: أجل. الحقيقة أنه مهتم كثيراً بهذه المسائل.
- ولكن، هل ربط ذلك بمسألة إصلاح الوضع الاقتصادي، خاصة وأن أي رفع للأجور شرطه وجود نهضة اقتصادية قادرة على تمويله، فيما الاقتصاد المصري يعتمد الآن على المساعدات والديون. بكلمات أوضح: هل يمتلك السيسي رؤية اقتصادية واضحة؟
هنا ساد صمت غير قصير، لكن عيني حمدين لمعتا من تحت النظارات وكأن هذا السؤال تضمن في ثناياه كل علامات الاستفهام حول مدى قدرة المشير على تحقيق "معجزة" التوازن بين النمو الاقتصادي (الذي يتطلب وفق شروط صندوق النقد الدولي فرض "التقشف" الحاد على 70 مليون فقير مصري)، وبين مطالب الطبقات الوسطى والفقيرة الاجتماعية والمعيشية الملحة.
اكتفى حمدين برد دبلوماسي: الواقع أن السيسي لم يطرح تصوراً اقتصادياً خلال جلستي معه.
لكن مالم يقله حمدين، قاله لنا كل من عبد الحكيم عبد الناصر (نجل الرئيس الراحل) وجمال عبد الناصر (حفيده). فالرجلان، وعلى رغم تأييدهما للسيسي رئيساً، خاصة وأنه أكد مراراً وتكراراً أن مثله الأعلى هو ناصر، أديا تخوفهما من وقوع السيسي تحت سيطرة من أسموهم "رجال الأعمال الطفيليين".
قالا:" هذه الطبقة، وهي نفسها طبقة الرأسمالية الكومبرادورية المرتبطة بالخارج، تسيطر على العديد من مفاصل الاقتصاد والدولة. وسيتعين على السيسي إذا ما أراد إعادة توجيه التنمية في مصر نحو القطاعات الانتاجية وبعيداً عن "كازينو المضاريات العقارية والمالية والخدماتية"، مواجهة هذه الطبقة بقوة".
هذا الرأي يبدو أنه يحظى ضمناً بتأييد إعلامي مصري مقرّب للغاية من السيسي، هو عبد الله السناوي.
قال لنا السناوي: "السيسي يجد نفسه متنازعاً بين قوتي جذب ضاريتين إثنتين. إذ هو يتعرض إلى ضغوط قوية من تحت (الطبقات الشعبية والوسطى) لإحداث نقلة نوعية في النظام المصري اقتصادياً وسياسياً، وإلى  ضغوط قوية أيضاً من فوق (رجال الاعمال وبيروقراطية الدولة) لإعادة انتاج نظام مبارك وإن بحلَّة شعبية جديدة.
وهذا يعني أن مصير رئاسة السيسي ستكون في الواقع معلقة على أي من القوتين ستقع  خياراته. أي بين إعادة إنتاج النظام الزبائني- الكومبرادري في عهدي مبارك والسادات وبين إعادة بناء النظام الناصري الإنتاجي الذي بنى 2000 مصنع، والسد العالي، ومشاريع انتاجية زراعية وصناعية عدة.
إذا ما وقعت قرعة السيي على الخيار الثاني، سيجد في مواجعته تحالف رجال الأعمال الكومبرادوريين المتحالفين مع العديد من "إقطاعات" الدولة القديمة في مصر. إما إذا انحاز إلى الخيار الأول فسيفاجأ بمقاومة ضارية من طرفين: الشارع المصري الذي تحوّل (وفق تعبير زبغينو بريجنسكي) إلى قوة سياسية لاسابق لها في التاريخ، وفئة الشباب المصريين التي كانت الدينامو الحقيقي لكل الانتفاضات المصرية الاخيرة. فهؤلاء بكل أطيافهم وألوانهم لما يتعبوا بعد، ولا يقبلون بأقل من نظام ثوري جديد يقطع كلياً مع الأنظمة السابقة، ويؤسس لوطن جديد ودولة متطورة.
الشباب هؤلاء باتوا "وجع رأس" حتى لأحزاب المعارضة، بسبب حركيتهم واندفاعهم. وينتظر أن يكون لهم دور فاعل لاحقاً في تقرير الوجهة التي سيتسير إليها الامور في مصر. لا بل أكثر: إنهم "القنبلة الموقوتة" التي قد تنفجر إذا ما قررت النخبة الحاكمة "العودة إلى العمل كالمعتاد" وفق نموذج نظام مبارك.
حين انتهى حفل العشاء العائلي في منزل حمدين، قال لنا هذا الأخير وهو يودعنا:" المشير السيسي يعتمد كثيراً على الحسابات الكثيفة قبل أن يُقدم على أي خطوة".
وهذه كانت ملاحظة نقدية فائقة الذكاء. لماذا؟ لأن مصر في هذه المرحلة الصعبة تحتاج في الواقع إلى مغامرين يلاحقون رؤى، وليس إلى واقعيين قد تكبلهم كثرة الحسابات.
_________________________________






الأربعاء، 5 مارس 2014

"اليوم، غدا" في القاهرة(2): السيسي قوي، ولكن؟



- I -
القاهرة- سعد محيو
 لم يحدث قبل الأن في كل تاريخ مصر منذ 7 آلاف سنة أن ترددت شخصية ما في الجلوس على عرش الفراعنة. لا بل قد يكون هذا أيضاً مخالفاً للطبيعة البشرية الساعية دائماً وأبدا إلى السلطة والقوة و"المجد" الذي ينبع من فوهة الحكم.

لكن عبد الفتاح السيسي كسر هذا القالب- القانون. فهو بقي متردداً حتى اللحظة الأخيرة في الترشح للرئاسة، مع ميل قوي في البداية إلى عدم خوض انتخابات الرئاسة. هذا لايعني أن السيسي لا يريد السلطة، لكنه يريدها من دون مسؤوليات الرئاسة، عبر ممارستها من وراء الكواليس انطلاقاً من موقعه المحصن كوزير للدفاع.
أسباب هذا التردد واضحة. فالأزمة الاقتصادية- الاجتماعية المصرية، والتي كان في جذر كل الانتفاضات والاضطرابات التي تواصلت في مصر طيلة ثلاث سنوات، باتت متجذرة وعميقة إلى درجة خطرة. وهي تترافق في الوقت نفسه مع تحوّل الشارع المصري إلى شارع حي وقوة سياسية ضخمة، مايوجب أن يزاوج الحكم، أي حكم، بين النمو الاقتصادي وبين تحقيق المطالب الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تشكّل غالبية الشعب المصري. وهذا أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، في إطار السياسات الاقتصادية الليبرالية الرأسمالية.
السيسي كان متنازعاً في هذه النقطة بالذات. فهو كان يتعرض إلى ضغوط قوية من تحت (الطبقات الشعبية والوسطى) للترشح بهدف إحداث نقلة نوعية في النظام المصري اقتصادياً وسياسياً، وإلى  ضغوط قوية أيضاً من فوق (رجال الاعمال وبيروقراطية الدولة) لإعادة انتاج نظام مبارك وإن بحلَّة شعبية جديدة.
 وبالطبع، سيكون السيسي في الرئاسة في حالة تنازع مماثلة بين شروط صندوق النقد الدولي التي تدعو إلى فرض التقشف على 70 مليون فقير مصري (...) تحت شعار إصلاح الاقتصاد المصري لجذب الاستثمار الخارجي، وبين آمال هؤلاء الفقراء بتحقيق مطالب ثورتي يناير ويونية: الخبز والحرية.
المؤسسة العسكرية المصرية التي تعي جيداً هذه المعطيات، كانت تفضل أن تحكم البلاد (كما كانت تفعل منذ العام 1952) من راء الستار، كما في الجزائر وقبلها في تركيا. وهذا لايعود فقط إلى خوفها من الفشل، بل أولاً وأساساً من احتمال أن تؤدي سلطتها المباشرة إلى المطالبة بوضع اقتصادها، الذي يُقال أنه يشكِّل ثلث حجم الاقتصاد المصري، قيد التساؤلات والمساءلات.
- II -
على أي حال، بدا واضحاً أمس (الثلاثاء) من خطاب السيسي في حفل تخريج عسكري أنه حسم أمره وقرر الترشح. وهو ينتظر الآن إنجاز قانون الانتخابات ليستقيل من منصبه في وزارة الدفاع تمهيداً لإعلان ترشحه رسميا.
بالطبع، سيحتل المشير كرسي الحكم، كما تؤكد كل الاستطلاعات، وهو يتمتع بمزايا عديدة.
إذ هو يأتي وهو يمتطي جواد الوطنية المصرية التي انفجرت كالبركان خلال السنة المنصرمة بفعل عوامل معقدة للغاية، والتي تمحورت أساساً حول الدفاع عن الدولة بغض النظر عن مضمونها او شكلها، سواء أكانت استبدادية أو حديثة.
السبب الرئيس هنا كان فشل تجربة الإخوان المسلمين في الحكم. فهولاء بدل أن يعملوا على تحديث وتطوير وتجديد الدولة القديمة المصرية عبر ضرب الفساد ومراكز القوى التي حولتها إلى إقطاعات، عمدوا إلى محاولة أخونتها وقلبها إلى إقطاعية إخوانية خاصة ومستقلة. ولأن هذه المحاولة ترافقت مع إديولوجيا الإخوان التي تعطي الاولوية للأمة الإسلامية على الوطن المصري، وبالتالي لدولة الإخوان الإسلامية على الدولة الشاملة للجميع، أطلق ذلك الوطنية المصرية القوية والعميقة من عقالها، وقلب موازين الثورة رأساً على عقب: بدل الهجوم على هيمنة رأس المال والمخابرات والعسكر على الدولة، بات هم الناس واهتمامهم هو الدفاع عن هذه الدولة نفسها بكل أجهزتها، كوسيلة للحفاظ على الوطن نفسه.
وهذا رصيد دسم للغاية في جعبة السيسي.
علاوة على ذلك، سيكون في وسع المشير استخدام ورقة الحرب على الإرهاب، ومعها ورقة إعادة الأمان والأمن والاستقرار، كوسيلة فعالة أخرى لتعزيز شرعيته الشعبية. وهذا أمر نجح فيه حتى الرئيس السابق مبارك، الذي حاز هو الأخر حيزاً من الشرعية حين قاتل الإرهاب الأصولي طيلة حقبة التسعينيات.
وفي حال واصل الإخوان المسلمون سياسة التصعيد الحالية، فهذا أيضاً سيصب لصالح السيسي، لأنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى ربط الجماعة ربطاً وثيقاً بجماعات الإرهاب، وإلى شرذمة قوتها الانتخابية والسياسية التي تناهز العشرين بالمئة.
السيسي قادر، إذاً، أن ينطلق من موقع الرئاسة وهو يمتلك أوراقَ قوية. لكن هذا هذا سيكون كافياً لتحقيق النجاح؟
كلا.
لماذا؟
(غدا نتابع)


الثلاثاء، 4 مارس 2014

"اليوم، غدا" في القاهرة (1) الإخوان "اختفوا"، والكل متردد





  
- I -
القاهرة - سعد محيو

أين الأخوان المسلمين؟

هذا السؤال طالعنا منذ اللحظة الأولى لوصولنا إلى مطار القاهرة، وبقي معنا طيلة الرحلة التي دامت نيفاً وأسبوع.
السؤال لاعلاقة له فقط بغياب أي تحركات وتظاهرات إخوانية في شوارع القاهرة وميادينها (على الأقل خلال الفترة التي أمضيناها هناك)، بل أيضاً في" تبخُّر" أي ذكر لهذه الجماعة التي كانت قبل أشهر قليلة شاغلة الدنيا والناس، والمتربعة على عرش مصر وبرلمانها والعديد من مؤسساتها.
حين تسأل سائقي التاكسي عن الإخوان، يجيبون تقريباً برد واحد "الله يرحمهم". وحين تطلب من القادة السياسيين والحزبيين الذين التقيناهم تفسيراً، تجدهم هم أنفسهم مفاجئين بعدم ورود الأخوان إلى أذهانهم، على رغم أن خطر تفكك الجماعة وتحوّل العديد من أجنحتها إلى العنف احتمال وارد، خاصة وأن 20 ألفاً من كوادرهم خرجوا بين ليلة وضحاها من القصور إلى السجون.
الأرجح أن سبب هذا الغياب، أو التغييب، هو أن مصر والمصريين مشغولون هذه الأيام حتى الثمالة.
مشغولون بماذا؟
بالانتظار:
فهم ينتظرون أن يحسم المشير عبد الفتاح السيسي قراره بالترشح أو عدم الترشح. وكذا الأمر مع الجنرال سامي عنان، الذي يقال أنه يحظى بمباركة الإخوان ودعمهم.
والأهم أنهم ينتظرون من أي طرف سيمتطي ظهر نمر السلطة المصرية أن يحقق لهم بضربة واحدة الأمن الأمني، والاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية، بعد أن أصابهم التعب من الانتفاضات، وأحبطتهم التجربة الديمقراطية مع الإخوان.
ولأن انتظارهم هذا يحمل في طياته توقعات عظام، تسري الأحاديث الكثيفة عن تردد كبير ينتاب المؤسسة العسكرية حول ترشيح رأسها (السيسي) لمنصب الرئاسة، وعن استمرار تردد السيسي نفسه في الترشح.
الأسباب واضحة: الأزمات الاقتصادية- الاجتماعية هائلة. وجهاز الدولة القديمة الذي يفترض به أن يقود أي تنمية انتاجية ذي معنى، تحوّل إلى إقطاعات متنافسة العديد منها مرتبط بأقطاب الرأسمالية الماركانتيلية الذين برزوا وترعرعوا في العقود الأربعة من حكم السادات- مبارك. هذا إضافة بالطبع إلى ارتباط الاقطاعات بأجهزة أمن هذه الدولة القديمة.
المؤسسة العسكرية، التي تُدرك هذه المعطيات، تخشى أن يتمدد فشل السيسي المحتمل كرئيس في دفع التنمية قدماً إلى الأمام، إلى صفوفها فيحمَّل الجيش ككل المسؤولية. وحينها قد تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها أمام التساؤلات والمساءلات حول دور المؤسسة العسكرية في الاقتصاد.
ويوضح لنا مصدر قريب من السيسي ان هذا الأخير نفسه متنازع بين قوتي جذب إثنتين ضاريتين. إذ هو يتعرض إلى ضغوط قوية من تحت (الطبقات الشعبية والوسطى) لإحداث نقلة نوعية في النظام المصري اقتصادياً وسياسياً، وإلى  ضغوط قوية أيضاً من فوق (رجال الاعمال وبيروقراطية الدولة) لإعادة انتاج نظام مبارك وإن بحلَّة شعبية جديدة.
كلا الخيارين أحلاهما مر، لأنهما يتضمنان معارك طاحنة قبل أن يتمكن أي نظام جديد من شق طريق جديد لمصر جديدة.
وهذا ماقد يدفع إلى الاستنتاج أن القادة السياسيين، أو العديد منهم على الأقل، يمارسون هم كما مواطنيهم العاديين لعبة الانتظار.
- II -

طرف واحد فقط في كل مصر يرفض هذه اللعبة: فئة الشباب، التي كانت الدينامو الحقيقي لكل الانتفاضات المصرية الاخيرة. فهؤلاء بكل أطيافهم وألوانهم لما يتعبوا بعد، ولا يقبلون بأقل من نظام ثوري جديد يقطع كلياً مع الأنظمة السابقة، ويؤسس لوطن جديد ودولة متطورة. هم لايعرفون كيف، لكنهم يعرفون أنهم يريدون.
الشباب هؤلاء باتوا "وجع رأس" حتى لأحزاب المعارضة، بسبب حركيتهم واندفاعهم. وينتظر أن يكون لهم دور فاعل لاحقاً في تقرير الوجهة التي ستسير إليها الامور في مصر، سواء باتجاه إعادة انتاج دولة مبارك الأمنية- الماركانتيلية على رفاة الثورتين، أو إقامة دولة حديثة تستند إلى قطاعات انتاجية استراتيجية كتلك التي أقامتها دولة جمال عبد الناصر.
أين السيسي من كل هذا الذي يجري؟

(غدا نتابع)




الاثنين، 3 مارس 2014

من أوكرانيا إلى سورية وفنزويلا: هجوم غربي معاكس وشامل





فلاديمير بوتين على حق: ثمة روائح "مؤامرة" ضد الدب الروسي في حديقته الخلفية الأوكرانية، أو بالأحرى في عقر داره القومي نفسه لأن كييف وأوكرانيا تعتبران مهد الأمة الثقافية الروسية.

لكن بوتين يعلم أيضاً، أو يجب أن يعلم، أن هذه "المؤامرة" كانت متوقعة. إذ لا الولايات المتحدة ولا الغرب في وارد قبول صيغته الخاصة للاندماج في النظام الرأسمالي العالمي وفق الشروط هو التي حددتها "استراتيجية الأمن القومي الروسية حتى العام 2020". أي:  بعث الاتحاد السوفيتيي القديم تحت رداء "الاتحاد الاوراسي" الجديد، ومن ثّمَ جعل روسيا قوة عظمى على قدم المساواة مع بقية سرب العظماء الدوليين.
أميركا والاتحاد الأوروبي لديهما مخططات أخرى معاكسة لروسيا. إنهما لاتريدان تدميرها كما يعتقد المفكر الماركسي سمير أمين، بل دمجها في الغرب وفق شروطه. وهذا يأتي في سياق مشروع استراتيجية عليا أميركية لقارة أوراسيا (التي يحكم من يسيطر عليها العالم، كما يرى ماكيندر)  تحدث عنها زبغنيو بريجنسكي في كتابه الأخيرة "رؤية استراتيجية" تقوم على التالي:   - إقامة "غرب أكبر" من خلال ضم روسيا وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثَمَ إلى التحالف الأطلسي العام،
- تمارس أميركا بعدها لعبة توازن دقيقة في الشرق الآسيوي، عبر التحوُّل إلى "حَكَمْ" بين القوى الآسيوية الكبرى الثلاث الصين والهند واليابان، بما يجعل هذه القوى، أو معظمها، معتمدة إما على القوة الأميركية أو على الدبلوماسية الأميركية.
يلتسين وبوتين
الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، ومعه التيار الأطلسي  الغربي في النخبتين السياسية والرأسمالية الأوليغارشية الروسية، قبلا هذه الاستراتيجية الغربية، لكنهما لم يستطيعا قطف ثمارها لسببين: الأول، عدم قدرة واشنطن على إقناع ألمانيا وفرنسا بالقفز فوق عواطفهما القومية ومصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية الضيقة لتسهيل دمج روسيا (وتركيا) في كلٍ من الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. والثاني عدم قدرة النظام الروسي نفسه على تلبية شروط هذه الاستراتيجية في مجال تبنّي الديمقراطية الليبرالية وقبول التحوُّل إلى دولة "طبيعية" في أوروبا.
بيد أن بوتين، وعلى رغم غزله الأولي مع هذا المشروع (عبر وفق "إعادة تنظيم" ( Reset) العلاقات الروسية- الأميركية العام 2009)، اعتبر في نهاية المطاف أن روسيا لن تحتل موقعاً مرموقاً في النظام الدولي كما تريد هي لا كما يخطط الغرب لها، سوى من خلال لعبة موازين القوى وصراع النفوذ. وهكذا، أطلق الرئيس الروسي مشاريع ضخمة لإعادة السيطرة على دول الاتحاد السوفييتي السابق وحتى بعض دول أوروبا الشرقية، واقتحم الشرق الأوسط مجددا عبر البوابة السورية (والآن المصرية)، وغازل الصين في إطار معاهدة شنغهاي للوقوف معاً ضد هيمنة القطبية الأميركية الوحيدة في العالم.
زلزال أوكرانيا
حتى ماقبل زلزال أوكرانيا، كان يبدو أن رياح التاريخ تهب لصالح سفن بوتين، خاصة في ضوء حرص إدارة أوباما على التركيز على "بناء الأمة" في الداخل الأميركي اقتصادياً واجتماعيا. لكن الصورة اختلفت كلياً الآن. فقد كشفت تطورات أوكرانيا أن طموحات بوتين عملة غير مرغوب بها في واشنطن وبروكسل، وأنهما مستعدتين لشن هجوم معاكس ضدها ليس فقط في أوكرانيا، بل كذلك في سورية حيث قيل أن الولايات المتحدة والسعودية والأردن تنشط الآن لفتح جبهة دمشق من درعا ضد النظام الحليف لبوتين، وحتى في فنزويلا التي تمتعت فيها موسكو بنفوذ واضح إبان عهد تشافيز.
وفي حال قرر بوتين ركوب ظهر النمر في أوكرانيا، إما من خلال التدخل العسكر في شرق أوكرانيا بعد شبه جزيرة القرم أو تقسيم البلاد بين شرق روسي وغرب أوروبي، فسيجد الولايات المتحدة جاهزة لاستخدام عضلاتها الاقتصادية الضخمة في مجموعة الثماني، ومنظمة التجارة العالمية، وباقي هيئات العولمة الأميركية، وحتى في مجال نقل تقنيات النفط الصخري ( Shale oil) إلى بولندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى لتخفيف اعتمادها على الغاز والنفط الروسيين.
بالطبع، فرص واحتمالات توصّل الغرب وروسيا إلى حل وسط ما في أوكرانيا، لاتزال قائمة، خاصة وأن كلا الطرفين يدركان مخاطر حمل البطاطا الاوكرانية الملتبهة، من جراء الانهيار الاقتصادي في البلاد، عليهما.
لكن، إذا ماتغلَّبت المشاعر القومية الملتهبة على المصالح العقلانية الباردة، وتخلى بوتين عن سياسة التحدي الحذر والصبر الاستراتيجي مع أميركا لصالح توجهات المجابهة، فإن الأبواب والنوافذ ستكون مفتوحة على مصراعيها إن لم يكن أمام حرب باردة جديدة، فعلى الأقل أمام صراع شرس بين الرأسمالية الروسية والرأسماليتين الأميركية والأوروبية على الأدوار و"الجوائز" و"الفرائس" في النظام العالمي الجديد.
وفي هذه الحالة، ستكون روسيا هي الخاسر الأكبر، لأنها الطرف الأضعف بما لايقاس اقتصادياً في معادلة موازين القوى.
.. إلى سورية ومصر
ماذا الآن عن تأثيرات هذا الصراع المستجد على سورية والشرق الأوسط؟
الأمر سيعتمد على طبيعة ردود فعل بوتين على الحدث الأوكراني، وإن كانت غالبية الآراء في المنطقة تتوقع أن يتصلّب الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد أكثر مما هو متصلب الآن.
لكن، حتى هنا، يبدو الموقف الروسي ضعيفا. إذ ماذا في وسع موسكو أن تعمل لدعم النظام السوري أكثر من إغراقه حتى الثمالة بالأسلحة والعتاد والخبراء العسكريين كما تفعل الآن؟ ثم: روسيا ستجد نفسها قريباً في مواقع الدفاع في سورية، إذا ما تأكد أن إدارة أوباما بدأت بالفعل تغيير موقفها من مسألة تسليح المعارضة السورية بالصواريخ المضادة للدروع والطائرات، وأذا ما تأكد أن جبهة الجنوب السوري قد فتحت بالفعل باتجاه دمشق.
علاوة على ذلك، لايتوقع الآن أن يذهب بوتين بعيداً في تحدي النفوذ الأميركي في مصر، التي تعتبرها واشنطن حجر الزاوية في استراتيجيتها الشرق أوسطية، بعد أن باتت يداه مغلولتين في أوكرانيا، لأن ذلك سيشجع واشنطن على تسريع فتح أبواب جهنم الاقتصادية عليه.
لقد أِشرنا في مقال سابق في سويس انفو إلى أن "العالم يعيش الآن مرحلة "اللاقطبية" التي قد تعني في لحظة ماتفاقم المنافسات والصراعات بين الدول الرأسمالية القديمة والجديدة، من أميركا وأوروبا واليابان والصين إلى روسيا والبرازيل وبقية النمور الأسيوية، بعد أن أصبحت كل هذه الدول رأسمالية. أي أن الصراع سيكون بين مختلف أصناف الرأسماليات الأساسية في العالم، في شكل تنافس على الأسواق والرساميل والموارد الطبيعية وخطوط التجارة البرية والبحرية. وهذا مادفع العديد من المحللين الأوروبيين إلى تشبيه الوضع الدولي الراهن بذلك الذي كان قائماً عشية الحرب العالمية الأولى".
ويبدو أن هذه الفرضية تتجسد بوضوح الآن في الصراع حول أوكرانيا، كما في سورية، كما في فنزويلا، مروراً بكل قارتي أوراسيا وإفريقيا.
إنها بالفعل ظروف ماقبل الحرب العالمية الأولى وهي تتخلّق من جديد.

سعد محيو- بيروت