- I -
قلنا بالأمس أن الانفجار والدمار اللذان تشهدهما المجتمعات
العربية هذه الأيام هائل بالفعل. لكن، مايغفله الكثيرون هو أن الحدث أمر طبيعي في
الواقع، لا بل قد يثبت أنه في خاتمة المطاف صحي ومثمر.
لكن كيف؟
قبل الثورات، كانت المجتمعات العربية أشبه بطنجرة
الضغط (البريستو) التي أحكمت الأنظمة السلطوية إغلاقها بدعم كامل من الغرب، فخلق
ذلك استقراراً وهمياً ظن الكثيرون، بما في ذلك هذا الغرب نفسه، أنه ثابت ودائم.
بيد أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر في واشنطن ونيويورك أسفرت
عن إرخاء القبضة الغربية الداعمة، فبدأ غطاء البريستو يترنح. وترافق ذلك مع صعود
هائل في طفرة أعداد الشباب، وفشل مشاريع التنمية والنهوض الاقتصادي في العديد من
الدول العربية، والفراغ الإيديولوجي الناجم عن إفلاس الطبعة الفاشية من القومية
العربية ومن وطنية الدولة- الأمة في كل بلد عربي، فبات كل شيء جاهزاً للانفجار.
بالطبع، تباينت درجة التشظي في كل دولة. لكن
الحصيلة في الواقع كانت، وستكون أكثر، واحدة: إعادة بناء المجتمعات العربية على
أسس وتوازنات وقواعد جديدة، تبعاً للخصوصيات التاريخية والراهنية لكلٍ من هذه
الدول.
ففي مصر وتونس والمغرب، ستعتمد إعادة البناء هذه
على مدى قدرة الحركات الإسلامية على بلورة هوية وطنية جديدة قادرة على حل
التناقضات بين أطياف المجتمع، من ناحية، وبين الإسلام السياسي والديمقراطية، من
ناحية أخرى. وأيضا(وربما هنا الأهم كما تدل التجربة التركية) على تحقيق نهضة
اقتصادية شاملة.
ومالم تنجح الحركات الإسلامية في تحقيق هذه الأهداف،
ستتواصل التمخضات العنيفة داخل طنجرة البريستو، وقد يسفر ذلك عن استيلاد ليس ثورة
واحدة جديدة بل سلسلة من الثورات الاجتماعية المتواصلة.
وفي سوريا وليبيا، اتخذ الانفجار شكل الوعاء الذي
نشأ منه، وهو وعاء يعج بالتظلمات الطائفية والقبلية والإثنية. فنَحَتْ الامور في
كلا البلدين منحى تصفية الحسابات بين الريف السنّي وبين العلويين في سورية، وبين
القبائل المتنافسة وغلاة الزيديين والسنّة في اليمن.
وهكذا، باتت
إعادة البناء تتطلب إعادة النظر في الكيانات السياسية نفسها، لا في الأنظمة
السياسية وحدها كما في مصر وتونس. وهذه عملية قد تستغرق ردحاً من الزمن قبل أن تصل
النخب المتصارعة إلى الاقتناع بضرورة تطوير نظام سياسي جديد أكثر تعددية وأقل
عسفاً في العلاقة بين الطوائف والقبائل.
صحيح أن هذه العملية دموية للغاية وقاسية للغاية،
إلا أنها لابد أن تصل في لحظة ما إلى نهايات سياسية تعيد البناء من جديد، سواء كان
ذلك في إطار دولة سورية ويمنية وليبية موحّدة وديمقراطية أو دولة فيدرالية على
النمط العراقي أو اللبناني.
- II -
بيد أن تمخضات طنجرة البربستو لاتقتصر على العوامل
الداخلية في بلدان الربيع العربي. إذ هناك أيضاً الحدث الجلل المتمثّل في الصعود
الهائل والسريع لتركيا إلى قمرة القيادة الإقليمية والعالمية، والذي سيترك بصمات
واضحة على الوجهة التي ستسير فيها الثورات العربية. كما هناك أيضاً عوامل أخرى
لاتقل أهمية:
- تقلُّص النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وتفاقم
الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية في البلاد نتيجة لكلٍ من السياسات المخطئة واستنزاف
الغرب لإيران في سباق على التسلح والنفوذ الإقليمي شبيه بذلك الذي تعرّض إليه
الاتحاد السوفييتي السابق. وهذا سيسفر في مرحلة ما عن انفجار جديد لطنجرة البريستو
الإيرانية، بما لذلك من تأثيرات أخرى ضخمة على المنطقة لاتقل عن تأثيرات الصعود
التركي؟
- بدء إنحسار النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط،
بفعل كلٍ من الأزمة الاقتصادية الداخلية واستراتيجية الاستدارة شرقاً التي تنتهجها
حالياً إدارة أوباما. وهذا ماسيعطي أهمية مضاعفة للتمخضات المحلية والإقليمية في
الشرق الأوسط على حساب الأدوار الدولية المُقررة المعهودة.
- وأخيراً، تراجع قدرة إسرائيل الاستراتيجية على
توجيه دفة الأحداث في المنطقة، بعد أن انتقل الوزن التاريخي الفاعل في بلدان
المنطقة من مؤسسات الدول والنخب الحاكمة إلى المجتمعات المدنية والأهلية. صحيح أن
الدولة العبرية قد تفيد من تفكك الكيانات في الهلال الخصيب وتشتق لنفسها مناطق
نفوذ بين بعض الطوائف والإثنيات، إلا أن السياق العام للتطورات في كل المنطقة،
مترافقاً مع انتقال مركز الثقل العالمي إلى آسيا/الباسيفيك ومعه محط التركيز
الأميركي وصعود تركيا، سيسفر في نهاية المطاف عن تآكل الهيمنة الضمنية الإسرائيلية
على نظام كامب ديفيد الشرق أوسطي.
- III -
كل هذه المعطيات تكسي لحماً وعظماً الفرضية التي
تقول إن المرحلة الانتقالية العربية الراهنة، على رغم كل آلامها (في مصر وتونس)
ومآسيها المُروِّعة (في سورية) ومعاناتها القاسية (في ليبيا)، ستؤدي في خاتمة
المطاف إلى ولادة جديدة في المنطقة. وعلى أي حال، بعد كل حرب هناك سلام، وبعد كل
دمار هناك إعادة بناء، وبعد كل هبوط صعود.
ربما توقّف الكثيرون عن وصف الثورات العربية
بالربيع، وباتوا أقرب إلى نعتها بالشتاء. بيد أن هذه نظرة تفتقر إلى العمق
التاريخي.
صحيح أن هذه الثورات لم تقد إلى أنظمة ديمقراطية
مستقرة، كما ثورات ربيع أوروبا الشرقية خلال الموجة الثالثة من الديمقراطية، لكن
الصحيح أيضاً أن الثورات العربية فتحت باباً لم يعد في الوسع إغلاقه بعد الآن، وهو
سيقود في نهاية المطاف إلى حياة جديدة و"عرب جدد".
كل ما في الأمر أن التناقضات غير المحلولة التي
تراكمت في طنجرة البريستو العربية طيلة نيف و60 عاما(والبعض يقول ألف عام!)، لما تنفجر كلها بعد.
سعد محيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق