هل لازال الصراع السوري، سورياً؟
السؤال، لوهلة، قد يبدو غريباً لا بل حتى مؤلما. فالشبان
اليافعون من كل الطوائف والنحل الذين تُسفح ورودهم قبل أن تتتفتح لتشهد نور
الحياة، والأطفال والنسوة الذين يجندلهم التعصُّب الأعمى بكل تلاوينه الدينية
و"المالية" والأنوية (من الأنا)، والأمهات الثكلى اللائي تتحوّل حياتهن
بعد فقدان أولادهم إلى جحيم نفسي ووجودي مقيم، كل هؤلاء قد يجعلون من هذا السؤال غريباً
ومرلماً في آن.
لكن، إذا مانحيّنا مؤقتاً هذا الجانب الإنساني-
"المثالي"، سنجد أن الأزمة المحلية السورية لم تعد بالفعل محلية بدفع من
عاملين إثنين:
الأول، عجز المعارضة طيلة سنة ونصف السنة لا عن إحداث
شقوق في النظام ناهيك عن اسقاطه وحسب، بل أيضاً عن استدراج تدخُّل دولي على النمط
الليبي.
والثاني، عجز النظام عن استعادة السيطرة على مناطق شاسعة
من البلاد، وعدم قدرته في الوقت نفسه على إدخال إصلاحات سياسية حقيقية قمينة وحدها
بنقل البلاد من الحالة السلطوية- الديكتاتورية إلى الحالية الديمقراطية أو على
الأقل شبه السلطوية.
هذا العجز المتبادل، الذي يذكّر إلى حد بعيد بالطريق
الاستقطابي- العصبوي المسدود الذي وصل إليه لبنان عشية الحرب الأهلية 1975 (حين
ساد شعار لدى كل الطوائف قوامه:"ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم")، والذي أخرج
الأزمة السورية عملياً عن سكّتها السورية، وقفذ بها بالكامل تقريباً إلى أحضان
"حروب الآخرين" على أرض بلاد الشام.
هذه النقلة خطيرة بالطبع بما فيها الكفاية، لكنها
تاريخياً لم تكن الوحيدة. فسورية (بالتاء المربوطة لتمييزها عن "سوريا"
التي تضم كل الهلال الخصيب) كانت في معظم تاريخها الحديث ساحة صراع بين الدول
الإقليمية والدولية. فهذا الكيان إما أن يكون امبراطورية، على غرار الإمبراطورية
الأموية و"امبراطورية" حافظ الأسد، أو يكون كويكباً تائهاً يدور في فلك
القوى الرئيس المتصارعة في الشرق الأوسط.
مؤشرات هذه النقلة خارجياً كثيرة: تدخُّل مجلس الأمن
ودخول المراقبين الدوليين لـ"الفصل" بين الدولة وشعبها (...)؛ تسليم
النظام رأسه كلياً لقرارات موسكو؛ وضع مسالة تغيير النظام السوري (ولأول مرة) على
كل شاشات الرادارات الأوروبية والأميركية.
لكن المؤشر الأهم له نفحة محلية: الجهود المضنية التي
يبذلها النظام السوري لتصوير الأزمة على أنها صراع بين مفهوم الدولة وبين مفهوم
الإرهاب، بهدف كسب ود الأطراف الدولية المعنية، خاصة منها الأميركية التي كانت
أجهزة مخابراتها (كما يقال) على صلة وثيقة
تاريخياً طيلة نيف وسبعة عقود مع مختلف مؤسسات حزب البعث العربي الاشتراكي.
وهذا الجهد يتقاطع مع جهد مماثل آخر تبذله المعارضة
السورية لاقناع المجتمع الدولي بأن أسلم طريقة لمنع تحوُّل سورية إلى بؤرة
"جهادية" هي التدخل الخارجي لاسقاط النظام.
الأزمة السورية، إذاً، تلبننت (من لبنان) وتعرقنت (من
العراق) ، بمعنى أنها تدوُّلت (من تدويل). لكنن ما سمات هذا التدويل، وأي مصير
يتنظر سورية على يديه؟
روسيا وأميركا
كل شيء بات يعتمد بالدرجة الأولى على قدرة أو لاقدرة
الولايات المتحدة والاتحاد الروسي على التوصُّل إلى صفقة ما حيال بلاد الشام. لكن حتى
الآن، لايبدو هذا هدفاً داني القطاف.
فموسكو، ومع أنها بدأت تُطلق في السر شكاوي مريرة من
"لاعقلانية" السلطة الحاكمة في دمشق، لاتزال تراهن لا على
قوة النظام بل على ضعف المعارضة، وتحتضن هي الأخرى دعاوي النظام حول مسألة
الجهاد والإرهاب والتخريب المسلّح.
وواشنطن، بدورها، تبدو في وضع مريح وغير متعجّل. فالنظام
السوري يتآكل سياسياً واقتصادياً يوماً بعد يوم، ويجر معه روسيا إلى مواقع حرجة
على المستوى الدولي.
فضلاً عن ذلك، الطرفان يستخدمان "الورقة
السورية" لخدمة أوراق أخرى.
فموسكو تريد من
واشنطن وقف التدخل في الشؤون الداخلية الروسية (عبر دعم جماعات المعارضة)، وحلاً
لمسألة الدرع الصاروخي في أوروبا الذي تعتبره تهديداً لقدراتها الباليستية النووية،
واعترافاً أميركاً بنفوذها في آسيا الوسطى.
وواشنطن تبدو مستعدة لتكريس نفوذ موسكو التاريخي
والعسكري في سورية، وحتى أيضاً في بعض مناطق آسيا الوسطى. كما ألمح الرئيس أوباما
إلى أنه قد يكون مستعداً للبحث عن تسوية ما للدرع الصاروخي. لكن الإدارة الأميركية
تريد قبل منح كل هذه "العطايا" أن يعود الرئيس بوتين إلى سابق عهده في
مماشاة السياسات الخارجية الأميركية.
حتى الآن، لاتلوح في الأفق بوادر صفقة كبرى من هذا النوع
ما بين موسكو وواشنطن. لكن غيابها لايعني استحالتها، خاصة إذا ما تذكّرنا الصفقات
الضخمة التي أبرمتها موسكو السوفييتية مع واشنطن الرأسمالية منذ اتفاق يالطا
لاقتسام أوروبا بين الطرفين بعد الحرب العالمية الثانية إلى معاهدة هلسنكي حول
التعاون الأوروبي واتفاقات الحد من الأسلحة النووية. والأن، موسكو ليست شيوعية بل
رأسمالية. وهي عضو في منظمة التجارة العالمية، درة تاج النظام الرأسمالي العالمي.
ولذا، الصفقات قد تكون واردة في كل حين، ومنها بالطبع الصفقة المحتملة حول سوريا،
وإن بعد حين.
في مثل هذه الصفقة المحتملة، سيبرز إلى الوجود مايمكن أن
يكون أول كوندومينيوم (حكم مشترك) روسي- أميركي غداة الحرب العالمية الباردة، تدير
بموجبه موسكو جل شؤون البلاد، وتحصل منه واشنطن على وضع حد للتحالف الاستراتيجي
السوري- الإيراني وللدعم المطلق السوري لحزب الله في لبنان. وهذا في الواقع جل ما
تطمح إليه إدارة أوباما في هذه المرحلة.
لكن، وكما أسلفنا، يتعيّن قبل التوصل إلى صفقة
الكوندومينيوم هذه أن يتمكّن بوتين وأوباما من إصلاح ذات البين بينهما. وهذا
مالايبدو أن بوتين مستعجل على تحقيقه. فهو أتصل الأسبوع الماضي بزميله الأميركي
ليعتذر عم حضور قمة الثماني الكبار، متحججاً بأنه منشغل بتشكيل الحكومة الجديدة.
لكن السبب الحقيقي هو أن الرئيس الروسي يتطلع إلى العمل على إقامة نظام عالمي جديد
مع الصين ودول مجموعة العشرين، يكون هو مدخله (لا مجموعة الثماني التي باتت ضعيفة
نسبياً) إلى استعادة بعض أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق.
بيد أن بوتين قد لايكون قادراً في الواقع على إدارة
الظهر تماما لأوباما في العديد من المواضيع التي تمس مباشرة الأمن القومي الروسي.
وعلى سبيل المثال، إذا مامُنيت السياسة الأميركية في أفغانستان بالفشل التام وعادت
طالبان إلى السلطة، فستدفع روسيا ثمن تفاقم تهريب الهيروين إلى أراضيها. وإذا ما
بقي الرئيس بشار الأسد في السلطة، رغم أنف الجامعة العربية وأوروبا وأميركا،
فسيكون على روسيا مواجهة مضاعفات غير مريحة قط في الشرق الأوسط وحتى في الأمم
المتحدة والعالم، حيث ستبدو أنها تدعم التطرف السلطوي. ثم: إذا ما حصلت إيران على
القنبلة النووية، فسيكون على موسكو أن تشعر بالقلق من جراء التهديد "الإسلامي" الذي
سيبرز على حدودها الجنوبية.
هذا عن روسيا وأميركا. أما عن إيران وأميركا، فالشائعات
التي تترافق مع "المفاوضات الإيجابية" الحالية بين الطرفين، لاتستبعد هي
أيضاً صفقة ما حول سوريا ولبنان، في حال حصل النظام الإسلامي الإيراني على ضمانات
لبقائه وعلى اعتراف ببعض أدواره في الشرق الأوسط.
بيد أن هذه الشائعات، التي لطالما ترددت هي نفسها على
مدى العقود الثلاثة الماضية، لاتزال كما هي: أي مجرد شائعات، خاصة وأن لكل من
أوباما وأيه الله خامنئي مصلحة (أكثر من
أي شيء آخر) في تمرير ماتبقى من وقت قبل الانتخابات الأميركية بأكثر قدر من
الهدوء.
وعلى أي حال، وحتى لو توصلت واشنطن وطهران إلى تفاهمات
ما حيال سورية، فهذا الاتفاق لن تكون له قيمة ما لم يندرج أولاً في صفقة روسية-
أميركية.
رقعة الشطرنج
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحداً: سورية تحوّلت إلى رقعة شطرنج عملاقة،
يعتقد كل طرف داخلي فيها أنها اللاعب الأهم، في حين أن الجميع تحوّلوا في الواقع
إلى بيادق في أيدي القوى الدولية. وفي حال لم يتمكّن الرخّان الأميركي والروسي من
إبرام صفقة تعادل في هذه اللعبة، فإن الرقعة (أو الساحة) السورية مرشحة للتمدد
لتشمل لبنان والعراق وربما أيضاً الأردن وتركيا والسعودية وقطر. وحينها سيدفع
الجميع الأثمان الفادحة (ماعدا إسرائيل بالطبع).
قد يبدو هذا الاستنتاج مُغرقاً في انحيازه لأولوية
العوامل الخارجية الدولية على العوامل الداخلية المحلية في الأزمة السورية. لكن
مثل هذا الانطباع يتبدد حين نتذكّر القاعدة الذهبية التي برزت خلال الحرب العالمية
الباردة وبعدها: كل حرب أهلية تبدأ محلية في البداية، لكنها سرعان ما تصبح إقليمية
ودولية إذا ما وصلت الأزمة إلى طريق مسدود.
وسورية الآن، من أسف، في طريق مسدود.
أعجبني مقالك وتحليلك
ردحذفThanks a lot dear Rasha. what specifically did you like?
حذف