للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

هل يتكرر نموذج مؤتمر فيينا 1815 في الشرق الأوسط؟



أجل. أميركا في حالة انحدار نسبي. لكن هذا لايعود إلى صعود الصين والهند والبرازيل وبقية سرب النمور، بل إلى أوضاع الولايات المتحدة الداخلية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي.
فآسيا الصاعدة لاتزال في حاجة إلى سنوات عدة كي تصل إلى موازنة القوة الأميركية عسكرياً واقتصاديا. وكما هو معروف في التاريخ، فإن انحدار قوة عظمى لايؤدي بالضرورة إلى زوالها من الوجود، إلا إذا مابرزت قوة أو قوى أخرى قادرة على الحلول مكانها. وهذا مالايبدو حالياً في أي أفق قريب، أو على الأقل خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الآن.
هذا التمييز بين التراجع والانسحاب ضروري كي لانقع في استنتاجات متسرّعة لطالما تكررت خلال نصف القرن المنصرم حول نهاية الباكس أميركانا في العالم. صحيح، كما يقول الباحث مايكل هدسون، أن العالم يشهد تحولات ضخمة في موازين القوى بسبب صعود القوى الكبرى الآسيوية الثلاث (الصين والهند واليابان) معاً للمرة الأولى في التاريخ، إلا أن الصحيح أيضاً أن أياً منها أو حتى كلها مجتمعة لاتطمح، ولاهي قادرة، على الحلول مكان الزعامة الأميركية في العالم في المرحلة الراهنة.
أوباما والشرق الأوسط
الآن، وطالما أن الصورة على هذا النحو، كيف نفسّر مانرى من انحسار أميركي حقيقي وكبير في الشرق الأوسط، تجلى أكثر ماتجلى في تراجع الرئيس أوباما عن حماية خطوطه الحمر في سورية، وخطوطه الزرق (الديمقراطية) في مصر وتونس وحتى في منطقة الخليج، ثم عن خطوطه البيضاء (السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين)؟ أليس كل ذلك دليلاً على الانحدار التاريخي الأميركي؟
كلا! أو ليس بعد على الأقل.
فالتراجع ( Retrenchment) أو تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ناجم عن جملة عوامل تتعلق كلها بقيام إدارة أوباما منذ سنوات خمس بإعادة رسم الأولويات الأميركية في العالم، وليس بالتخلي عن زعامة هذا العالم. لا بل الهدف هو تعزيز وتقوية هذه الزعامة.
الخبيران الاستراتيجيان البارزان في الشؤون الأمنية الأميركية شون بريملي وإيلي راتنر يلخصان هذه الأولولات الجديدة بالنقاط الرئيسة التالية:
- أوباما وصل إلى الحكم وهو على قناعة بأن حربي العراق وأفغانستان منعتا الولايات المتحدة من تركيز الموارد في آسيا التي تعتبر منطقة مركزية للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية. وهذا دفعه إلى إعادة ترتيب الأولويات الأميركية والاعتراف بالحقائق الجيو- سياسية المتغيرة للقرن الحادي والعشرين.
- هذا التوجه الجديد لايقتصر على الجوانب العسكرية بل يطال أيضاً المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية، وتعزيز العلاقات مع الحلفاء التقليديين وبناء علاقات أعمق مع القوى الصاعدة، بما في ذلك الصين، وتنويع المواقع العسكرية للولايات المتحدة. كما أنه (التوجه) يهدف إلى التركيز على الأهمية الجيو- سياسية لمنطقة المحيط الهندي بوصفه الطريق الرئيس للتجارة العالمية. وقد دعمت واشنطن تطور علاقات أكثر وثوقاً بين الهند وبلدان جنوب ووسط آسيا.
- واشنطن لاتسعى إلى حفز دول كفيتنام والفيلبين وغيرها على تحدي الصين، بل تعمل على  بناء نظام إقليمي آسيوي تحكمه القواعد والمؤسسات، بما في ذلك مؤسسة الحوار الاستراتيجي والاقتصادي الأميركي- الصيني وحوار الأمن الاستراتيجي. والواقع أن السنوات الأربع الماضية شهدت قفزة نوعية في الانخراط الأميركي الإيجابي مع بجبينغ  أكثر من أي مرحلة أخرى في تاريخ العلاقات بين البلدين.
- في حقبة التقشف المالي الذي تمر به الولايات المتحدة، سيتطلب التركيز على منطقة آسيا- الباسيفيك خفض الالتزامات الاميركية في باقي مناطق العالم، وأيضاً على الطلب من حلفائها وشركائها في هذه المنطقة تحمُّل مسؤوليات إضافية. وهكذا يتعيّن على جيوش دول مثل استراليا واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايلاند ان تساهم بشكل أكبر في الأمن الإقليمي على مستويات متوافقة مع إمكاناتها.
هذه هي قواعد الاستدارة شرقاً نحو آسيا التي بدأت إدارة أوباما بتطبيقها. وهي، كما هو واضح، تتكوّن من عنصرين إثنين: العمل على إصلاح وتصحيح مسار الاقتصاد الاميركي في الداخل، وتقليص النفقات والأعباء والالتزامات الأميركية في الخارج.
وهذا يشي بأننا نقف بالفعل أمام مرحلة جديدة في التوجهات الخارجية الأميركية، قوامها الضبط الاقتصادي "القومي" في الداخل، وخفض الالتزامات (والحروب) الأميركية في الخارج، وإعادة تركيب نظام العولمة الأميركي بما يخدم هدفين في آن: احتواء صعود الصين، ومواصلة  ترسيخ الزعامة الأميركية على العالم.
الاستدارة والشرق الأوسط
لكن ما تأثيرات سياسة "الاستدارة" الأميركية(Pivot ) نحو آسيا على توجهات واشنطن في الشرق الأوسط؟
الواقع أن الولايات المتحدة تعتبر أصلاً أن منح الأولوية في سياستها الخارجية لمنطقة آسيا-الباسيفيك، فرض عليها سحب كل قواتها من العراق وأفغانستان وإغلاق ملف الحرب فيهما التي استنزفت الخزينة الأميركية بمبلغ تجاوز التريليوني دولار.
وبالطبع، حين تقرر واشنطن الانسحاب من هاتين الحربين ونقل الموارد منهما إلى منطقة الباسيفيك، لايتوقعن منها أن تنغمس في وقت قريب في حروب أو نزاعات أخرى في الشرق الأوسط، إلا إذا ما تطلّب الأمن القومي ذلك أو تعرَّض وجود إسرائيل أو المصالح النفطية إلى تهديد جدي.
وهذا بالتحديد، على أي حال، ما فعلته إدارة أوباما خلال السنتين الماضيتين:
-  فهي لم تلعب في حرب إسقاط القذافي سوى دور داعم لفرنسا وبريطانيا. لا بل لم تتدخل عسكرياً هناك، إلا بعد أن بدا واضحاً أن حليفتيها غير قادرتين على حسم الأمور بمفردهما.
- وهي رفضت التدخل ضد الجهاديين الإسلاميين في مالي، وقذفت العبء كله على الطرف الذي له أكبر المصالح في الموارد الطبيعية لمنطقة الساحل الإفريقية: فرنسا.
- ثم أنها (الإدارة) قاومت كل الضغوط التي مارستها عليها كل المؤسسات الأميركية تقريباً، من البنتاغون إلى السي.أي. آي ووزارة الخارجية، لتزويد بعض أطراف المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة، خوفاً من أن يقودها ذلك إلى التورط بالتدريج في الأزمة السورية.
باراك أوباما بعد العراق وأفغانستان، يفعل تماماً مافعله ريتشارد نيكسون بعد فيتنام، حين عمد هذا الأخير إلى تقليص الالتزامات الأمنية- العسكرية الأميركية المباشرة في العديد من بقاع العالم و"لزّمها" إلى قوى إقليمية موالية للولايات المتحدة شاه إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، والبرازيل في أميركا اللاتينية، وتركيا في البلقان وآسيا الوسطى، وحلف الأطلسي في أوروبا، وجنوب إفريقيا والمغرب في القارة السمراء.
والأن يُتوقع أن يفعل أوباما الأمر نفسه في الشرق الأوسط، الذي كان محور الاهتمامات المركزية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة العام 1991. فهو سيعتمد أكثر فأكثر على تركيا في منطقتي الشرق الإسلامي (الدول العربية ودول آسيا الوسطى)؛ وسيكون مهتماً أكثر من أي وقت مضى بدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية من خلال دفعها إلى التحالف مع الدول العربية و(مجدداً) مع تركيا؛ وسيواصل العمل على "تفليس" إيران وتجويعها بهدف دفعها في نهاية المطاف إلى الجثو على ركبيتها، أو التعرُّض إلى الانفجار من داخلها، في حال لم تتوصل المفاوضات الراهنة معها إلى "صفقة كبرى" جديدة.
وكل ذلك بهدف تقليص الأعباء الأميركية في هذه المنطقة، ونقل الموارد الضخمة التي خصصت لها في السابق إلى منطقة آسيا- الباسيفيك وإلى الداخل الأميركي.
بالطبع، هذا لايعني أن أميركا ستدير الظهر للشرق الأوسط. فطالما أن هناك قطرة نفط واحدة هناك، ستبقى هذه المنطقة، كأمن قومي أميركي، على رأس الأولويات الأميركية، بسبب الدور الكبير للنفط في تحديد من سيكون الأقدر على الإمساك بقارة أوراسيا من عنقها.(ومن يمسك بهذه القارة يحكم العالم).
وبالمثل، طالما أن إسرائيل باقية على خريطة الشرق الأوسط، ستكون إي إدارة أميركية ملزمة بالاهتمام بهذه المنطقة لاعتبارات محلية أميركية، واستراتيجية عامة، وأمنية.
لكن هذه الاستمرارية في الاهتمام لن تعني أنه لن يكون هناك تلاويين جديدة في السياسة الأميركية الشرق أوسطية، خاصة في مايتعلق بمنطقة الخليج العربي.
فعلى رغم أن أميركا ستبقى اللاعب الإقليمي الرئيس في الخليج، إلا أنها ستكون حريصة على ألا تتوسع مظلتها الأمنية ضد الخصوم الخارجيين الذين يهددون دول المنطقة لتصبح تورطاً غير مرغوب فيه في النزاعات الداخلية التي قد تنشب في هذه الدول.
البحرين نموذج أوّلي على هذا التطور. فعلى رغم أن واشنطن لم تقف علناً إلى جانب الانتفاضة الشعبية البحريينية، إلا أنها لم تقف أيضاً إلى جانب الحل الأمني- المخابراتي الذي تبنَّته الحكومتان البحرينية والسعودية، وواصلت المطالبة بحل سياسي للأزمة. وهذا موقف لم يكن متصوراً من جانب واشنطن.
فيينا 1815 جديدة
هذه المعطيات مجتمعة تشي بأن الولايات المتحدة ربما تكون راغبة بالفعل في وضع ترتيبات جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، تحفظ مكانتها فيها كقوة عظمى مهيمنة، من جهة، وتسهل عليها نقل الموارد إلى كلٍ من الداخل الأميركي ومنطقة الباسيفيك، من ناحية أخرى.
لكن، هل تصل مثل هذه الترتيبات المفترضة إلى مستوى مؤتمر فيينا الأوروبي العام 1815؟
للتذكير: مؤتمر فيينا الذي ترأسه رجل الدولة النمساوي ميترنيخ. عقد في الفترة من أيلول/سبتمبر 1814 إلى حزيران/يونيو 1815 وكان هدفه تسوية العديد من القضايا الناشئة عن حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية وتفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة. أسفر هذا المؤتمر عن إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة، وعن إنشاء مناطق نفوذ لكل من فرنسا والنمسا وروسيا وبريطانيا تتوسط فيها تلك الدول في حل المشاكل المحلية والإقليمية. وكان مؤتمر فيينا نموذجاً لعصبة الأمم والأمم المتحدة بسبب هدفها في إحلال السلام من جانب جميع الأطراف.
الكاتب الأميركي في واشنطن بوست ديفيد أغناتيوس كان أول من توقَّع أن تدفع الولايات المتحدة نحو عقد مثل هذا المؤتمر "بهدف العمل على إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط"، على حد تعبيره، إنطلاقاً من المفاوضات الراهنة بين إيران والغرب.
لا بل هو ذهب أبعد من ذلك حين طالب السعودية بـ"التخلي عن هوسها بالهلال الشيعي، في مقابل تخلي إيران عن طموحاتها الثورية". كما طالب الرئيس أوباما بدعوة قادة حلفاء أميركا في الشرق الأوسط، تركيا والسعودية ودولة الإمارات ومصر وإٍسرائيل، إلى مؤتمر قمة في كامب ديفيد لمناقشة هذا المشروع الإقليمي الجديد.
لكن، هل هذه الفكرة الكبرى قابلة حقاً للتنفيذ؟
إذا ما عدنا إلى مؤتمر فيينا، سنتذكر أن هذا اللقاء، الذي كان الأول من نوعه في تاريخ العلاقات الدولية، لم ينعقد سوى بعد هزيمة النزعة التوسعية الفرنسية التي خلّفت دماراً شاملاً في القارة الأوروبية.
فهل وصلت قوى الأمر الواقع في الشرق الأوسط (أميركا وإسرائيل) والقوى الثورية المراجعة (إيران ومعها من وراء الكواليس روسيا والصين) إلى القناعة بأن نزعتها التوسعية فشلت وبات عليها بالتالي البحث عن وفاق إقليمي- دولي جديد للمنطقة شبيه بوفاق فيينا؟
سيبين الخيط الابيض من الأسود في هذا الأمر في المفاوضات الأميركية- الأيرانية، سواء السرية منها أو العلنية، والتي ستتكثف فيها أدوار كل اللاعبين الدوليين المعنيين بالمنطقة، من روسيا والصين إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن، يمكن القول من الآن أن العقبات تبدو كأداء أمام هذا المشروع الضخم لتأسيس نظام إقليمي شرق أوسطي جديد يحل مكان كلٍ من النظام الإقليمي العربي الذي انهار بعد حربي 1967 والكويت، والذي تأسس أصلاً على النظام الإقليمي البريطاني- الفرنسي مع سايكس وبيكو.
إذ أنه ( المشروع) يجب أن يحل أولاً المسألة النووية في كل المنطقة وليس فقط في إيران، (أي تسوية قضية الأسلحة النووية الإسرائيلية)، ويسوي القضية الفلسطينية العالقة منذ قرن، ويرضي حلفاء أميركا الواجفين من أي "مساومة كبرى" بين واشنطن وطهران (تركيا، السعودية، إسرائيل، مصر). وفوق هذا وذاك، سيكون على المشروع نيل موافقة صقور الكونغرس الأميركي واليهود الليكوديين في الولايات المتحدة وإسرائيل ونسور الحرس الثوري الإيراني، ومباركة روسيا والصين والاتحاد الأوروبي.
حتى الآن، لم يتحدث أي مسؤول أميركي عن مؤتمر فيينا الشرق أوسطي هذا. لكن مجرد تغيّر أولويات أميركا على هذا النحو الجذري ورغبتها في مشاركة أطراف دولية وإقليمية منافسة لها في حل أزمات المنطقة (كما حدث في سورية)، يعني أن الأبواب باتت مفتوحة بالفعل أمام بدء التفكير (وربما العمل) على ترتيبات إقليمية- دولية جديدة في الشرق الأوسط.
قد لايحدث ذلك اليوم أو غدا، لكنه سيحدث حتماً إذا مابقيت الأولويات الأميركية الجديدة على حالها ولم تتغير مع أي إدارة أميركية أخرى، لأن بديلها سيكون تنافس قاتل بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى على ملء ما ستعتبره فراغاً أميركياً في الشرق الأوسط.

سعد محيو


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق