ينُشر هذا المقال في موقع سويس انفو الالكتروني http://www.swissinfo.ch/ara
سعد محيو
هل حُسِمت مسألة الخلافة السعودية، بتعيين أحد أبرز
أمراء الجيل الثالث من آل سعود، محمد بن نايف، ولي ولي العهد؟
ظاهرياً، يبدو الأمر كذلك. فالسرعة التي تم فيها الإعلان
عن تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد، ثم فوراً تقريباً تعيين محمد بن
نايف نائباً له، أوحى بأن الملك الجديد سلمان حسم بسرعة خاطفة الجدل الكبير داخل
الأسرة حول مسألة انتقال السلطة من الجيل الثاني من آل سعود إلى الجيل الثالث.
بيد أن المظاهر قد تكون خادعة في الكثير من الأحيان،
خاصة في نظام كالمملكة العربية السعودية يلف نفسه وصراعاته الداخلية بسرية مطلقة.
فما يجري فيها فوق السطح اليوم، لن يعكس بالضرورة ما قد يطفو من تحت هذا السطح
غدا. وهذا يصح على وجه التحديد بسبب الحقيقة أن معركة الخلافة الراهنة لاتتعلق
بأشخاص بعينهم، بل بفروع عائلية كاملة تتشعب من آل سعود الذي يناهز تعداد أمرائهم
الـ15 ألفاً (على ما يشاع). فروع تنافست تاريخياً، ولاتزال، في مابينها بضراوة على
السلطة والنفوذ والمال.
مرحلة انتقالية خطرة
بالطبع، الأولوية القصوى لكل الأجنحة السعودية هي الحفاظ
على سلطة العائلة، التي تعود جذور علاقتها بالسلطة إلى القرن الثامن عشر، حين خاض
مؤسسو العائلة وقادتها صراعات مدهشة في عنادها ونجحوا، بعد تدمير دولتهم مرتين على
يد العثمانيين والمصريين، في إقامة دولتهم الثالثة الراهنة العام 1932.
لكن في المقابل، ليس ثمة شك بأن المرحلة الراهنة ستكون
حبلى بالمشاكل والمخاطر أمام الأسرة لأسباب عديدة:
فحكم الملك سلمان (79 عاماً) سيكون حتماً قصيراً، لأنه
يعاني من بعض الأمراض أخطرها العته ( Dementia)، وهو مرض عضوي في الدماغ يضرب
الذاكرة ويتسبب باضطرابات جسدية- نفسية. وولي العهد مقرن (69 سنة)، أمامه عقبات
واضحة في طريقه لتسنم العرش، لأنه إبن خليلة يمنية وليس زوجة للملك عبد العزيز.
هذا ناهيك عن أن الملك الراحل عبد الله خرق التقليد حين عمد إلى تعيين ولي العهد،
وهو قرار كان متروكاً في السابق للملك الجديد.
ثم أن تعيين الأمير محمد بن نايف، الذس ينتمي إلى الفرع
السديري من العائلة كما الملك سلمان (تيمناً بالزوجة المفضلة لدى الملك عبد العزيز
حصة بنت أحمد السديري) ، ولياً ويياً للعهد وبالسرعة التي تم بها، سيثير من دون شك
حفيظة العديد من أمراء الجيل الثالث، بينهم الأمير خالد بن سلطان، والأمير متعب بن
عبد الله، والأمير خالد الفيصل، والأمير بندر بن سلطان وغيرهم الكثير.
يقول سيمون هندرسون، الخبير بشؤون العائلة السعودية في
مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى :" على رغم أن العديد من الناس يقولون أن
عملية الانتقال ستكون سلسلة، إلا أن ثمة مروحة من الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد
بأن السعودية تتجه نحو أوضاع صعبة... فالمناورات داخل العائلة الملكية ستكون كثيفة
للغاية، على رغم أن الأمراء يكرهون الاعتراف بهذه الحقيقة".
لكن، إذا مانحينا جانباً بشكل مؤقت، لأغراض التحليل، الطبيعة البشرية التي تدفع الأخوة والأقارب إلى
تناحر، قد يكون دموياً أحياناً، على السلطة، منذ بدء التاريخ البشري (قابيل وهابيل
نموذجا)، ما العوامل الجديدة الآن التي تجعل الصراعات أكثر خطورة؟
هنا، التاريخ الحديث قد يضيء طريقنا قليلا.
في الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت المنطقة العربية
صعود نجم الحركة القومية العربية التي نادت بالحداثة والوحدة والتحرير، وأطلقت
تيارات عاطفية ضخمة في المنطقة تجسدت بالتفاؤل بإمكانية إعادة بناء الحضارة
العربية الإسلامية الباهرة. هذا التطور سرعان ما اجتاح مملكة السعوديين الذين كان
ملكهم سعود، الذي حل مكان والده عبد العزيز المتوفي العام 1953، غارقاً في لجج
الفساد ورافضاً بناء مؤسسات الدولة بما يتلاءم مع معطيات العصر.
هذه الحقبة أفرزت حركتين داخل الأسرة: الأولى تكوّنت من
"الأمراء الأحرار"،على رأسهم
الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي تعاطفوا مع الحركة القومية (في شقها الناصري)
ودعوا إلى تحويل الدولة إلى مملكة دستورية. والحركة الثانية قادها الأمير السُديري
فهد بن عبد العزيز، وطالبت بتنحي الملك سعود وتعيين الأمير فيصل مكانه كي يقوم
بالاصلاحات الضرورية، وفي الوقت نفسه إحهاض حركة الأمراء الأحرار.
بقية تاريخ هذا التطور معروفة. لكن مايهمنا هنا هو أن
الامراء الأحرار، كما الأمراء الأصلاحيين، لم يتحركوا في الواقع إنطلاقاً من
معطيات عاطفية أو شعورية وحسب، بل كان هناك أيضاً تقاطع مصالح واضح بين استبعادهم
عن السلطة وبين استخدامهم الإيديولوجيا الجديدة في المنطقة لصالح تحقيق أهدافهم
الذاتية.
الخمسينيات مجددا
واقعة الخمسينيات هذه يمكن أن تتكرر الآن بحذافيرها في
الهزيع الاول من القرن الحادي والعشرين. فالمنطقة تمر حالياً في تمخضات قد تكون
أخطر بكثير حتى من تطورات الخمسينيات، حيث يجد الإسلام السعودي، الذي شكّل درعاً
واقياً قوياً في السابق ضد الموجة القومية
والناصرية، نفسه في أحرج المواقف:
فهو مضطر، بسبب الضغوط الدولية غداة أحداث 11 سبتمبر في
أميركا، إلى إشهار الحرب على الجهاديين في المنطقة (النصرة، داعش، السلفيين
المتطرفين.. ألخ) الذين ينتمون إلى الجذور الوهابية نفسها للإسلام السعودي. لكنه
في المقابل يجد صعوبة فائقة في مواجهة أصول هذه الجذور في الداخل المتمثلة في
المؤسسة الدينية الوهابية المحافظة التي تنشر المباديء الداعشية والنصروية نفسها.
وفي المقابل، لم يستطع الإسلام السعودي التعايش مع فكرة
وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وبقية الدول العربية، لأنه اعتبر
أن مشروع الإسلام السياسي الخاص بهذه الجماعة يذهب بعيدا في عملية تزويج الإسلام
إلى الديمقراطية (على حساب مبدـأ "إطاعة أولي الأمر"). وهذه مسألة لم
تستطع بعض أجنحة الأسرة المتصلبة ابتلاعها.
الحل الذي خرجت به النخبة الحاكمة لهذا التخبط، إضافة
إلى نثر عشرات مليارات الدولارات في الداخل والخارج لشراء الولاء، كان إعلان
"الجهاد على الجهاديين" في الخارج، والقيام ببعض الاصلاحات في الداخل
(مجلس الشورى، توسيع دور المرأة، تعديل مناهج التعليم.. ألخ). لكنها إصلاحات لم
تمس في الواقع شعرة واحدة من نفوذ السلطة الدينية الوهابية.
بيد أن هذا الحل سيُثبت أنه مؤقت من بعض الأوجه، وخطر من
كل الأوجه: فهو لن يرضي القوى الدولية التي عاد الإرهاب الأصولي يطرق أبوابها
مجدداً وسيدفعها إلى استئناف الضغوط على المملكة لضرب جذوره الفكرية والتربوية في
مؤسساتها. وهو سيغضب بعض الشباب السعودي الذي يرى التناقض واضحاً بين تربيته
الوهابية وبين دعوته إلى مقاتلة أشباهه في المذهب من داعشيين وجهاديين. وهذه
المعضلة، بالمناسبة، هي التي خلقت في ظروف مشابهة أزمة الهوية الطاحنة لدى أسامة
بن لادن، وحوّلته من رجل أعمال "دنيوي" ينتمي إلى الدولة السعودية، إلى
رجل حروب غوار "آخروي" يقاتل باسم "الثورة الوهابية".
إلى أين؟
الآن، إذا ما كانت المعضلة في المرحلة الانتقالية
الراهنة في السعودية على هذا القدر من التعقيد، فإلى أين من هنا؟
العديد من المراقبين يعتقدون أن الأمر بات يحتاج إلى
تيارات تغيير شبيهة بثورة الأمراء الأحرار أو الانتفاضة الاصلاحية الفيصلية. لكن
هذه المرة في شكل يؤدي إلى الاخضاع التام لـ"الثورة الوهابية" إلى سلطة
الدولة الوطنية والهوية الوطنية (كما يحدث الآن في مصر- السيسي).
بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى أمرين متلازمين كي يتحقق:
الأول، حفز وتشجيع الأمراء الإصلاحيين الجدد على توضيح مواقفهم علنا، من خلال بروز
إئتلاف من قوى مجتمع مدني تتكوّن من عشرات
آلاف الطلاب الذين تعملوا في الغرب، ومن العناصر النسوية ومئات آلاف العاطلين عن
العمل والهيئات المطالبة بالاصلاحات الدستورية. والثاني، انحياز كيانات قَبَلية
وعشائرية ذات وزن إلى تيار الأمراء الإصلاحيين.
هذان الامران لايبدوان في الأفق الآن. لكن بروزهما يبدو
حتمياً في وقت غير بعيد، بسبب المخاطر غير المسبوقة التي تتعرض إليها الأسرة
السعودية في الداخل والخارج على الصعد كافة الاستراتيجية والفكرية والثقافية
والديمغرافية (طفرة الشباب الضخمة).
في الوقت الراهن، ستكون الاستمرارية هي الشعار في الداخل
وربما أيضاً في الخارج على صعيد "حرب النفط " مع إيران (وروسيا) ودعم
مصر السيسي والمعارضة السورية، ومجابهة مخاطر النفوذ الإيراني في اليمن والعراق،
وأخطار صعود داعش. لكن تقاطع معركة الأجيال داخل الأسرة مع المعارك الإديولوجية
والإقليمية الضخمة، إضافة إلى التغيرات الهائلة في المجتمع السعودي، ستجعل مثل هذه
الاستمرارية مجرد سحابة صيف عابرة.
وقديماً قال ابن خلدون: "إذا ماتبدّلت الأحوال جملة، فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره و كأنه خلق جديد ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق