سوريا: انقلاب في "طبيعة الصراع"
ثمة شبه إجماع الآن بين المحللين العرب والغربيين على أن النظام السوري فقد السيطرة على مناطق شاسعة من البلاد، على رغم الحملات العسكرية الواسعة التي يشنّها منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، في إطار ما بات يُعرف في أدبيات النظام بـ"الانتقال من الحل الأمني إلى الحسم العسكري".
السبب الرئيس لفقدان السيطرة لايعود إلى اختلال موازنين القوى العسكرية بين الحكّام وبين المحكومين المسلحين، سواء أكانوا "الجيش السوري الحر" أو الفصائل المدنية المسلحة الأخرى. فمثل هذا التوازن غير موجود قط، حتى الآن على الأقل، حيث النظام لايزال يتمتع بتفوق عسكري بري وجوي وبحري كاسح.
السبب هو تغيّر طبيعة هذه السيطرة. ففي السابق، وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية من عمر النظام الحالي، كان هذا الأخير يُمسك بكل مفاصل السلطة السياسية ويهيمن بشكل مطلق على كل منافذ المجتمع المدني عبر 15 جهاز أمني - استخباري نجحوا في التغلغل في كل مناحي الحياة السورية، فكانوا في كل بيت وشارع ومؤسسة وشركة وجمعية، وبالطبع في كل ثكنة.
هذه الهيمنة الأمنية المطلقة تهاوت في اللحظة التي وجد فيها النظام نفسه مضطراً إلى الاعتماد على الجيش لاستعادة السيطرة، بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من اندلاع الانتفاضة. فآلاف الدبابات والمدرعات كانت قادرة على احتلال المواقع التي وقعت في قبضة المتظاهرين والثوار، من الزبداني في ضواحي دمشق إلى درعا في الجنوب (والآن حمص في الوسط)، إلا أنها غير قادرة بالطبع على فرض استراتيجية الخوف التي كانت أجهزة الأمن متشعبة الرؤوس تنفذها بنجاح واضح طيلة عقود عدة. الدبابة تستطيع السيطرة بالنيران على شارع أو حي، لكنها لاتستطيع الدخول إلى المنازل والبيوت والمقاهي.
هذا التطور ليس تفصيلاً بسيطا البتة، بل هو سيُثبت، كما سنرى بعد قليل، أنه تحوُّل تاريخي من الطراز الأول في مجال طبيعة الصراع السياسي في سوريا: من صراع بين أجنحة عسكرية- أمنية هيمنت على الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال العام 1946 وحتى الآن، إلى صراع بين العسكر والمدنيين.
لكي نوضح هذه النقطة، قد يكون من المفيد القيام باستعراض سريع لصفحات من تاريخ سوريا الحديث، من حيث العلاقة بين المؤسسة العسكرية- الأمنية وبين المجتمع المدني.
الجيش والأقليات
ثمة انطباع شائع يميل إلى اتهام النظام السوري الحالي بأنه المسؤول عن الخلل الفادح في العلاقة بين الجسمين العسكري والسياسي.
لكن وقائع التاريخ لاتدعم هذا الرأي. فالدولة السورية الحديثة منذ استقلالها في نيسان/إبريل 1946، وبالتحديد بعد نكبة فلسطين، تحوّلت إلى مسرح مفتوح للصراعات العسكرية- العسكرية التي همّشت إلى حد بعيد المجتمعين السياسي والمدني وصادرت إلى حد بعيد أيضاً كل أو معظم أوجه الحياة السياسية.
فغداة حرب فلسطين، قام حسني الزعيم في آذار/مارس 1949 بأول انقلاب عسكري (مُدشِّناً بذلك سلسة انقلابات عسكرية لاحقة في كل أرجاء المنطقة العربية)، سرعان مالحق به إنقلاب ثانٍ بقيادة سامي الحناوي، ثم ثالث بعد سنة واحدة بقيادة أديب الشيشكلي.
وعلى رغم إطاحة الشيشكلي في انقلاب العام 1954، إلا أن الحياة السياسية التعددية والبرلمانية كانت قد أُفرغت من أي مضمون، بسبب إشراف فصائل الجيش والأمن على كل محاورها، وأيضاً بسبب اللااستقرار الذي خلقته الصراعات المتواصلة بين كبار ضباط النخبة العسكرية. فقد وقع عدد كبير من الانقلابات ومحاولات الانقلاب في الفترة بين 1949 و1971، وتغيرّت 20 حكومة في الفترة بين 1946 و1956، وتم فرض حالة الطواريء منذ العام 1963 وحتى تعليقها (شكلياً) أواخر العام 2011.
الملفت هنا هو الدور الكبير الذي لعبته النخب العسكرية الآتية من رحم الأقليات في هذه الصراعات المتواصلة على السلطة. فالزعيم والحناوي والشيشكلي يعودون جميعاً بجذورهم إلى الأقلية الكردية السنّية التي لاتشكل سوى نحو 9 في المئة من أجمالي سكان سورية.
وفي العام 1949 صدر تقرير رسمي عسكري سوري أشار إلى "كل القيادات التي تقف على رأس الوحدات العامة، تعود إلى أصول أقلاوية. وهذه القيادات تساعد الأقارب وأبناء الطائفة على الانخراط في صفوف الجيش".
البعض يُعيد هذا المنحى إلى الانتداب الفرنسي الذي شجّع بوضوح أبناء الأقليات العلوية والدرزية والمسيحية والإسماعيلية على دخول "القوات الخاصة للشرق" التي شكّلتها قوات الاحتلال. وهكذا بدأت منذ ذلك الوقت رحلة الأقليات، الذين جاء الكثير منهم من مناطق ريفية مُفقرة ومُضطهدة، مع العمل السياسي عبر السلك العسكري.
هذا التطور وصل إلى ذروته مع صعود نجم حزب البعث في السياسات السورية. ففي العام 1959، على سبيل المثال، تألفت "اللجنة العسكرية" في الحزب (أي القيادة العسكرية) من 15 ضابطاً بينهم 3 علويين (حافظ الأسد، صلاح جديد، ومحمد عمران)، وإسماعيليان (عبد الكريم الجندي وأحمد المير) ودرزيان من جبل العرب (سليم حاطوم وحمد عبيد) وستة سنّة من حوران وحلب واللاذقية. وكل هؤلاء الضباط جاءوا من أصول ريفية وعائلات فقيرة ماعدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي.
بعد الانقلاب البعثي في 8 آذار 1963، نشب صراع حاد على السلطة بين ضباط الأقليات الدرزية والعلوية والإسماعيلية. وحين حسم العلويون الصراع لمصلحتهم وأبعدوا الضباط العلويين والإسماعيليين، انفجر الصراع في صفوفهم بين حافظ الأسد وصلاح جديد. ومع نجاح الأسد في إطاحة جديد، من خلال فرض هيمنة الجيش الكاملة على حزب البعث الذي كان منحازاً إلى جديد، وتحوّله إلى أول علوي يتبوأ منصب الرئاسة في سوريا، بدأت مسيرة طويلة كانت سمتها الرئيس ضبط الصراعات داخل المؤسسة العسكرية- الأمنية، وتحويل هذه المؤسسة، التي احتل فيها العلويون معظم المواقع النافذة والمؤثرة (على رغم غلبة عديد سنّة الأرياف في سلك الجنود والمجندين وصغار الضباط)، إلى جهاز بيروقراطي ضخم لإحكام السيطرة على المجتمع المدني.
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت هذه المؤسسة إلى شبه طبقة اقتصادية، ومالبثت أن انفصلت عن جذورها الريفية وأبرمت حلفاً مع تجار المدن السنّة تمت فيه (في البداية على الأقل) مقايضتهم بالمنافع الاقتصادية مقابل الرضوخ الأمني، فكانت الحصيلة تصحير كل الحياة السياسية، وإطباق كامل على كل مقومات المجتمع المدني.
تحوُّل تاريخي
هذه المعطيات ربما توضح أن الخلل في العلاقة بين العسكر والمدنيين، وعلى رغم أنها بلغت ذروتها مع حكم الرئيس حافظ الأسد، إلا أنها لم تبدأ معه، بل كانت سمة "تأسيسية" رافقت قيام الدولة السورية الحديثة.
وهذه الحقيقة بالتحديد هي التي تعطي الانتفاضة السورية الراهنة بعدها التاريخي العميق الذي أشرنا إليه في البداية. فهذه قد تكون المرة الأولى التي ينتفض فيه معظم المجتمع المدني السوري ضد النخب العسكرية الحاكمة، مسجلاً بذلك أول اهتزاز كبير في موازين القوى بين الطرفين.
صحيح أن سوريا شهدت في السابق طيلة العقود الستة الماضية انتفاضات شعبية ومطلبية، إلا أن هذه لم تتسم بالشمولية ولم تؤثر على طبيعة الصراع على السلطة في البلاد. هذا في حين أن الانتفاضة الحالية اخترقت معظم بنى المجتمع السوري، وهي تطرح شعارات تصب مباشرة ضد هيمنة النخب العسكرية - الأمنية على مقدرات البلاد: الدولة المدنية، الديمقراطية، حكم القانون، الحرية.. ألخ.
حقيقة تغيّر طبيعة الصراع هذه ستبقى ماثلة، حتى لو انحدرت سوريا إلى حرب أهلية طائفية في حال بقيت معظم النخب العلوية متماسكة وداعمة للنظام الحالي. فالنخب العسكرية العلوية لن يكون بمقدورها بعد الآن مواصلة سيطرتها الأمنية السابقة على البلاد، كما أنها باتت تفتقد بشكل خطير إلى الأدوات الإديولودجية التي مكّنتها في السابق من دمج مفهومي الهيمنة (بالمعنى الغرامشي) والسيطرة (بالمعنى التوتاليتاري): القومية العربية العلمانية؛ حرب تشرين/أوكتوبر 1973 (التي منحت النظام شرعية غير مسبوقة)؛ وأولوية ما هو عروبي وحدوي على ما هو وطني محلي أو مطلبي.
كل هذه الأدوات أصبحت هشة أو حتى لا أثر لها. فالقومية العربية انحسرت في سوريا وكل المنطقة العربية بعد أن تلقَّت الضربة القاضية في هزيمة 1967 وبعد أن تعثّرت كل وعود الوحدة والحرية والاشتراكية. وحرب تشرين/أوكتوبر تكاد تصبح حدثاً تاريخياً عادياً، خاصة وأن الجولان لايزال محتلاً منذ 45 عاماً، ما عنى أن هذه "الحرب التحريرية" لم تكن في الواقع تحريرية تماما. وأولويات الجيل السوري الجديد، كما أولويات كل أجيال الربيع العربي، لم تعد الوحدة والاشتراكية، بل الخبز والكرامة واحترام حقوق الإنسان.
لكل هذه الاعتبارات، جوهر الصراع في سورية الذي قلبته الانتفاضة الراهنة رأساً على عقب، سيبقى بين العسكر والمدنيين، حتى لو تلوّن بسمات طائفية ومذهبية، أو حتى لو توسّعت وتيرة الانشقاق في صفوف الجيش السوري.
فالحدث التاريخي الآن في سوريا بات في يد المدنيين أو الشعب للمرة الأولى منذ 1949. وما لم يتأقلم العسكر بكل أشطارهم (أي في الموالاة كما في المعارضة) مع هذه الحقيقة، فأنهم سيحفرون بأيديهم قبر الدولة السورية الحديثة (ومعها الكيان الوطني السوري)، أو على الاقل سيحولونها إلى "دولة فاشلة".
سعد محيو- بيروت
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف