للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

السبت، 10 مايو 2014

مقال اليوم من سورية إلى أوكرانيا: أين "نهاية التاريخ "؟ (الحلقة4): الاستراتيجية الصينية: الوخز بالإبر


_____
استعرضنا في حلقة الأمن استراتيجية الأمن القومي الأميركي إزاء النظام العالمي الجديد، ونتطرق اليوم إلى الاستراتيجية الصينية.
____________
كما أن ثمة تيارين في الولايات المتحدة حول حدود الانخراط الأميركي في الشأن الدولي، هناك أيضاً تياران مماثلان في الصين.
 التيار الأول عبّر عنه بوضوح تقرير أكاديمية العلوم الاجتماعية الصينية العام 2008 بعنوان "استراتيجية حمامة السلام". وقد استخدم التقرير جسم الحمامة لتوضيح أولويات السياسة الخارجية الصينية: فالأمم المتحدة تقف على رأس الأولويات، أو رأس الطير، وآسيا هي صدره، في شكل "الرابطة الآسيوبة" ( Asian Association) وهي كتلة إقليمية مستقلة ستكون بقيادة الصين. أوروبا هي أحد جناحي الطير والولايات المتحدة(التي تنتمي إلى
منظمة التعاون الاقتصادي في آسيا- الباسيفيك- "أبيك") هي جناحه الثاني. أما أميركا اللاتينية وإفريقيا وقارة أوسيانا (التي تضم استراليا وجزر المحيط الهاديء التي تفصل آسيا عن أميركا) فهي ذَنَبَه.
استراتيجية حمامة السلام هذه جسّدها في الثمانينيات دنغ هسياو بينغ، الذي جعل الاندماج السلمي للصين في النظام الرأسمالي العالمي على رأس أولويات الصين، استناداَ إلى التركيز على التنمية والنمو الاقتصاديين الداخليين، وبالتالي التخلي (بعد الصفقة الشهيرة بين ماوتسي تونغ وريتشارد نيكسون) عن "الثورة الأممية البروليتارية" في السياسة الخارجية. وهكذا، باتت الحرب، التي كانت تعتبر حتمية بين الصين وبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، غير واردة، وعمدت الصين إلى انتهاج سياسة خارجية لاتستند إلى المجابهة، بهدف استقطاب الرساميل الاجنبية وتعزيز التجارة.
في أوائل القرن الحادي والعشرين، رسم هذا التيار الذي يقوده مفكرون استراتيجيون صينيون لوحة إيجابية للوضع الدولي. ففي تقرير العام 2002 رفع إلى المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني، تحدث الأمين العام جيانغ زمين عن "حقبة 20سنة من الفرصة الاستراتيجية، يجب أن تواصل خلالها الصين التركيز على المهام الداخلية". وفي عهد الرئيس هيو جينتاو، بلورت الصين سياسة تنمية واجتماعية جديدة موجهة نحو مواصلة تعزيز النمو الاقتصادي السريع، مع التشديد على الحوكمة الجيدة، وتحسين شبكات الأمان الاجتماعي، وحماية البيئة، وتشجيع الابداع المستقل، وتخفيف التوترات الاجتماعية، وحماية النظام المالي، وحفز الاستهلاك المحلي.
وبهذا، كانت القيادة الصينية تعيد تعريف السياسة الخارجية الصينية. فأعلن الرئيس هيو العام 2009 أن دبلوماسية الصين يجب أن "تحمي مصالح السيادة، والأمن، والتنمية". وهذا عنى: أولاً استقرار الصين السياسي، واستقرار النظام الحالي الذي لاتزال بيجينغ تصفه بالاشتراكي، وثانياً الأمن السيادي، ووحدة أراضي الصين، والتوحد القومي، والثالث ديمومة التطور الاقتصادي والاجتماعي.
هنا تجدر الإشارة إلى أن السمة الأساسية لفهم قادة الصين لتاريخ بلادهم هي حساسيتهم الحادة لأي احتمال لبروز الفوضى الداخلية التي قد تسببها التهديدات الخارجية. فمنذ قديم الزمان، كانت تسقط الأنظمة الصينية على يد توليفة من الانتفاضات الداخلية والغزوات الخارجية. فسلالة مينغ انهارت العام 1644 بعد أن سيطرت ثورة الفلاحين على بيجينغ،  التي تزامنت مع قيام المانشو، بالتواطؤ مع جنرالات مينغ، بتنفيذ غزو من الشمال. وبعدها بثلاثة قرون، انهارت سلالة المانشو نفسها عقب سلسلة من التمردات الداخلية التي ترافقت مع غزوات للقوات الغربية واليابانية. كما أن نهاية حكم الكومينتانغ وتأسيس جمهورية الصين الشعبية العام 1949، تحقق من خلال ثورة محلية استلهمت نموذج الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية العالمية.
هذه الذاكرة الجماعية الصينية تفسّر أسباب تركيز هذا التيار الأول الشديد على مسائل السيادة، وأمن الدولة الصينية، وعلى الأولوية التي تعطيها الصين لدور الأمم المتحدة، وهي في خضم تركيزها على البناء الداخلي.
تيار المجابهة
التيار الثاني ينطلق من هذه الذاكرة الجماعية نفسها، لكن ليصل إلى محصلات مغايرة: التركيز على أن الولايات المتحدة هي التهديد الأكبر لاستقرار الصين وتطورها. أنصار هذا التيار يستلهمون هنا مقولة الفيلسوف الصيني مينكيوس بأن "أي دولة ليس لها عدو أو خطر خارجي، محكوم عليها بالمطلق بالاندثار"، كما يقلبون مقولة صموئيل هانتيغتون بأن " العدو المثالي لأميركا قد يكون معادٍ إديولوجيا، ومختلف عنها إثنياً وثقافياً، وقوي عسكرياً بما فيه الكفاية لفرض تهديد يعتد به للأمن الأميركي، فيقولون أن الولايات المتحدة هي العدو المثالي للصين.
هذا الرأي يستند إلى قناعة قديمة بأن الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع الدول الغربية واليابان، معادية للقيم السياسية للصين وتريد احتواءها عبر دعم انفصال تايوان عن البر الصيني، ومساندة الدلاي لاما في التيبت، والانفصاليين المسلمين في ييغور، وعبر التحالفات العسكرية التي تقيمها الولايات المتحدة لتطويق الصين وكبح جماح طورها.
ويعتبر هذا التيار أن النهج الصيني الحالي في السياسة الخارجية ضعيف للغاية، ويدعو إلى العودة إلى نهج المجابهة الماوي، من خلال العثور على حلفاء استراتيجيين بين الدول التي تبدو متحدية للغرب كروسيا وإيران وكوريا الشمالية. لا بل يطالب بعض هؤلاء باستخدام الأرصدة الصينية الضخمة في سندات الخزينة الأميركية كوسيلة ضغط سياسي عبر التهديد ببيعها، إذا ما عملت الولايات المتحدة على تقويض المصالح القومية الصينية.
بيد أن القيادة الصينية الحالية، وعلى رغم أنها تطل على الولايات المتحدة بالفعل على أنها نوعاً من التحديات الاستراتجية والأمنية على الصين، إلا أنها تقول  ليس من المجدي أو حتى من التهور بناء استراتيجية عليا صينية تستند إلى الفكرة بأن أميركا هي الخصم الرئيس للصين. إذ أن قلة من الدول قد تنضم إلى الصين في تحالف معادٍ للولايات المتحدة، كما أن المجابهة ستعيق النمو الاقتصادي في الصين لأن أميركا هي الشريك التجاري الأكبر لها، ناهيك عن أنها لاتزال القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم. وهنا كان رئيس الوزراء الصيني ون جياباو واضحاً حين قال في أواخر العام 2013  عن الولايات المتحدة والصين: " مصالحنا المشتركة تفوق خلافاتنا".
لكن، وطالما الأمر على هذا النحو التهادني، لماذا تنشط الصين في مجموعة البريكس، ومعاهدة شنغهاي، وتقف مع روسيا في الأمم المتحدة ضد السياسات الأميركية والغربية في الشرق الأوسط، وتطالب بنظام عالمي تعددي جديد؟
ثمة مقال مثير في صحيفة "دايلي" الصينية واسعة الانتشار في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2011 قد يتضمن بعض الإجابات على هذا السؤال. يقول المقال أنه في حين أن الولايات المتحدة تعمل على تعافي النظام العالمي من خلال الجراحة، تفضل الصين العلاج بالإبر. والاختلاف بين الطرفين هنا يعود إلى الإرث الثقافي. ففي حين أن أميركا، والغرب عموما، يؤمن بأن أجزاء الجسد المصابة بالمرض يجب بترها لحماية باقي الأعضاء من العدوى، تشدد المقاربة الصينية على أهمية استعادة كل الجسد لعافيته. وبما أن التدخل الجراحي يعرقل قدرة الجسد ككل على التعافي، فإن العلاجات التدريجية وطويلة الأمد هي المفضلة. وهكذا، فأن العمليات الجراحية العسكرية الأميركية في العالم لاتفيد، بل يجب استخدام أدنى درجات التدخل الخارجي لتنشيط القدرات الداخلية.
والحال أن سلوكيات الصين في السياسة الخارجية، تدل على أنها تنتهج بالفعل مقاربة الوخز بالأبر لتمهيد الطريق أمام بروز نظام عالمي تعددي جديد. لا بل أن إصرار الولايات المتحدة على التعاطي مع مختلف مناطق العالم "جراحيا"، هو أحد دوافع التقارب الصيني- الروسي.
تباين روسي- صيني
لكن يجب الانتباه هنا إلى نقطة مهمة: على رغم أن روسيا والصين تتعاونا في مجموعة معاهدة شنغهاي وفي البريكس ومجلس الأمن لموازنة القوة الأميركية واحتوائها، إلا أن تحالفهما ليس من النوع الاستراتيجي لأنه يستند إلى قواعد سلبية (رفض الهيمنة الأميركية المنفردة) وليس إيجابية (مصالح متطابقة وأدوار متكاملة خاصة في آسيا الوسطى والباسيفيك).
نقاط التباين بين الصين وروسيا:
- سياسة روسيا في "التوجه شرقا" تهدف ليس فقط لموازنة الولايات المتحدة بل أيضاً لاحتواء الصين وباقي اللاعبين الإقليميين كالهند، خاصة في إقليمي آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. هذا إضافة إلى أن روسيا تجد مصلحة لها في المشروع الأميركي الخاص بـ"منطقة الازدهار لشمال شرق آسيا"، الأمر الذي يعكس كل المنطق المناويء لأميركا.
- مشاركة روسيا في معاهدة شنغهاي هدفها توكيد وجودها في وسط آسيا، وفي الوقت نفسه إحتواء صعود الصين والهند كما الولايات المتحدة. وهذه اللعبة المعقدة تجري فيما يتم إعادة تعريف هذه المنطقة على المستويين الجيو- استراتيجي والدولي.
- على رغم أن البراغماتية هي التي تسود العلاقات الروسية- الصينية الراهنة، إلا أنها تستند في الواقع إلى تباين في الفهم إزاء الهوية ومسألة الاندماج والأدوار في آسيا والنظام العالمي، الأمر الذي يجعل التنافس بين هذين العملاقين هو السمة الرئيس وليس التعاون أو التحالف.
وهذا كان واضحاً في رفض الصين، ودول شنغهاي، دعم الخطوة الروسية لتفكيك جمهورية جورجيا عبر الاعتراف باستقلال أوسيتيا وأبخازيا. ثم في "الموقف الحيادي" الذي اتخذته الصين إزاء الأزمة الأوكرانية. وهذا أبرز مجدداً حدود الشراكة الروسية- الصينية التي لم ترق بعد إلى مرتبة التحالف.
- في  تموز/يوليو 2005، صدر "الإعلاني الروسي- الصيني حول النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين" والداعي إلى إقامة نظام متعدد الأقطاب، موجّه خصوصاً ضد الهيمنة الأميركية. بيد أن التطورات منذ ذلك الحين وحتى مطلع العام 2014، دلت على هذا "التحالف الاستراتيجي السلبي" (إزاء جاز التعبير) يتبخر حين يتم تحييد المواجهة مع أميركا ويبدأ البحث بدور كل من روسيا والصين في آسيا- الباسيفيك وبقية أنحاء العالم. وهنا يطل التنافس برأسه مجددا ليحل مكان التعاون البراغماتي.
- وهذا واضح أيضاً في القيود التي تفرضها روسيا على صادراتها من الأسلحة النوعية والتكنولوجيا الحربية إلى الصين، على رغم كل دعواتهما إلى التحالف والتعاضد. فروسيا تخشى تجدد النزاعات مع الصين الصاعدة، وهي تعتبر مسعى الصين للتساوي معها في مجال القدرات والأحجام العسكرية، تهديدا لمصالحها القومية. وهذا يشمل أيضاً القلق على مصير سيبيريا التي يتدفق عليها المهاجرون الصينيون بأعداد كبيرة، إضافة إلى القلق من وتائر التحديث والعسكرة المتزايدة للقطاع الحربي في الصين، وقضايا الحدود، والهجرات الصينية إلى المناطق الروسية الشرقية.
- وأخيرا، اندفاع الصين إلى تبوأ مركز القيادة في آسيا، يعني أنها تريد التفوق على جيرانها في مجال القوة، خاصة روسيا واليابان. ومن أجل تحقيق وضعية الهيمنة على آسيا البحرية والقارية، وحمل القوى الأخرى على الاعتراف بقيادتها، تضغط الصين بهدوء من اجل سحب الولايات المتحدة من المنطقة، وتعمل على منع التقارب بين اليابان والهند مع "حليفتها" روسيا.
لكن كلاً من الصين وروسيا(حتى في خضم الأزمة الاوكرانية الحالية) حريصتان على عدم إبداء العداء للولايات المتحدة طيلة العشرين سنة المقبلة، لا بل هما تسعيان، كل على حدة، إلى إقامة علاقات ودية، وإن مستقلة، مع هذه الأخيرة. هذا في حين أن مستقبل التحالف المفترض بين الصين وروسيا لن يعتمد على مدى قدرتهما على تطوير رؤية استراتيجية وثقافية ومصلحية موحدة للنظام العالمي (فهذا يبدو صعب المنال كما أشرنا أعلاه)، بل على ماستفعله، أو لاتفعله، الولايات المتحدة في المقبل من الأيام، كما سنرى بعد قليل.
(غدا: استرتيجية الهند واليابان)
سعد محيو



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق