-
I -
الضرورات الاقتصادية قد تبيح المحظورات الثقافية والإديولوجية
في المملكة السعودية.
الضرورات هنا هي سعودة سوق العمل وتشجيع المواطنين على
الانتقال من القطاع العام إلى القطاع الخاص. أما المحظورات فهي بالطبع تلك القيود
الإديولوجية الفولاذية التي يضعها غلاة التيار السلفي المحافظ على حقوق المرأة
وحرياتها.
هذا الخلل في "موازين القوى" بين الاقتصاد
والاديولوجيا، بدأ يخلق مايمكن أن يكون "ثورة هادئة" في المجتمع
السعودي، تتمثل في تدفق النساء على سوق العمل الخاص. النموذج الأبرز هنا كان
انخراط النسوة في مهنة تحصيل الديون التي كانت حتى الأمس، كما غيرها من كل الاعمال
ماعدا التعليم، حكراً على الرجال. وهن حققن فيها نجاحات باهرة. فقد تمكنت المحصلات
من تحصيل 70 في المئة من الديون أكثر من زملائهن الرجال. وقد أوضحت إحداهن أن سر
النجاح "يكمن في أن النساء قادرات على تهدئة غضب الرجال، لأنهن الأقدر على
الإقناع من دون الحاجة إلى التهديد باللجوء إلى القضاء او الشرطة".
بيد أن الأمور لم تقتصر على تحصيل الديون. ففي غضون
السنوات الست الأخيرة، تضاعفت تقريباً نسبة مشاركة المرأة السعودية في قوة العمل،
من 9 في المئة إلى 16 في المئة، الأمر الذي خفض البطالة بين النساء بنسبة 30 في
المئة. وهذا لم يكن ليحدث لولا تشجيع الحكومة السعودية التي تريد تخفيف أعباء
القطاع العام وتقليص مخاطر اختلال التركيبة السكانية.
وتقول "فايننشال تايمز" أنه في حين أن غالبية
العاملات السعوديات لازلن يعملن في قطاع التعليم، إلا ان أعداداً متزايدة منهن
بدأن يتجاهلن التهديدات من غلاة المحافظين
الدينيين، ويعملن مكان الرجال في مهن مثل البيع بالمفرق على صناديق الدفع في
المتاجر الكبرى.
-
II -
هذه الانجازات لاتعني أن العقبات أزيلت من طريق مشاركة
المرأة في العمل، إذ لايزال منع النساء من قيادة السيارات يشكّل عقبة كأداء أمام
تدفق النساء على العمل، خاصة وأن خدمات النقل العام محدودة في المملكة.
بيد أن تحدي النسوة لهذه العقبات يؤشر على أنهن مساعدات
للإقدام على أي تضحية كي يستطعن زيادة الدخل الأسري، من ناحية، والشعور بالوجود
والتمكين، من ناحية أخرى. وهذا التطور الاجتماعي- الاقتصادي يتقاطع الآن مع تطور
سياسي سابق، حين تم في أوائل العام 20منح النساء خُمس مقاعد مجلس الشوري، في قرار اعتبر
"ثوريا"، وإن بالمعنى التاريخي وحسب.
فهو دل على المسافة الزمنية التي قطعتها الدولة السعودية
في حركتها الاعتراضية "الموسمية" على احتكار المؤسسة السلفية المتزمتة
السيطرة على المجتمع السعودي فكرياً وثقافياً واجتماعياً.
ففي عهد الملك فيصل، كان مجرد التفكير بتعليم البنات،
كجزء من مسار تحديث الدولة والمجتمع، يؤدي إلى ثورة ارتدادية سلفية، كما حدث حين توافد 800 رجل من القصيم على
الرياض اعتراضاً على فتح مدارس للبنات، وأعلنوا هدر دم من يعلم الإناث ووصفوا هذه
الخطوة بأنها "مصيبة عظيمة وطامة كبرى، وأن ظاهرها الرحمة وباطنها البلاء
ونهايتها السفور والفجور، وأن تعليمها حرام ومن يعلّمها فاسق فاجر يدّلها على طريق
الحرام".
البنات الآن يتعلمن. ووزارة التربية والتعليم هي التي
تُشرف على تعليمهن، لا التيار الديني المتشدد الذي عيّن نفسه "حارس
الفضيلة". وهذا يعني أن الدولة قادرة بالفعل، إن هي أرادت، على كبح جماح هذا
التيار، من دون أن يؤثر ذلك بقليل أو كثير على تحالف "الأمير والشيخ"
الذي قامت على أساسه مملكة السعوديين. ولا ننسى، على أي حال، أن الملك عبد العزيز
جرّد سيف الدولة ضد حلفائه الوهابيين حين تمرد هؤلاء على سلطته، فأدى ذلك إلى
تعزيز الدولة بدل أضعافها.
القرار، إذاً، يعتبر ثورياً بوصفه فقط جزءاً من عملية
صراع مع فئة من رجال الدين تعتبر أن من حقها فرض فهمها الخاص للدين على المجتمع
كما الدولة، وعرقلة كل/وأي إصلاحات تحديثية تضفي الطابع الإنساني (لا الشيطاني)
على المرأة، وتفسح في المجال واسعاً أمام بروز مجتمع مدني ودولة حديثة.
بيد أن هذه "الثورية"، على أهميتها في إطار
مايسمى ب"خصوصية" الكيان السعودي، لم تعد كافية او ليست في الواقع ثورية
كثيراً.
فمشاركة المرأة في الشورى جاءت على إيقاع الشروط السلفية
الخاصة بمواصلة فرض "الحجر الصحي" على المرأة وعلى مسألة خروجها من تحت
الأرض ومن التهميش المريع. وهكذا فالعضوات المعينات سيدخلن ويخرجن من قاعة المجلس
وكأنهم أشباح بلا أرواح، الأمر الذي يفقد هكذا قرار أي نكهة ديمقراطية قد تكون له،
خاصة وأن مجلس الشوري نفسه لايتمتع بأي صلاحيات وله مجرد دور استشاري تماماً كما
كان في عهد الملك عبد العزيز قبل نحو 90 سنة.
وهذا يعني أن استخدام المرأة لمنبر المجلس للمطالبة
بحقوقها الإنسانية والاجتماعية والسياسية، سيقابل في الشارع الذي يسيطر عليه
المطوّع بردود فعل أعنف من ذي قبل، لا بل أيضاً بمحاولات لاجهاض حقوق سابقة حصلت
عليها المرأة.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية حول ضعف "ثورية"
القرار، تتعلّق بالمرأة والرجل السعوديين معاً هذه المرة وبعلاقتهما بالدولة.
فقد وصلت وتائر التحديث المادي والتعليمي والإعلامي
(الفضائي) في المملكة مرحلة لم يعد ممكناً معاً موازنتها أو استيعابها
بالأيديولوجيا السلفية المغلقة، التي تعود بأصولها ومرجعيتها إلى ظروف واجتهادات
القرن الثالث عشر ميلادي، أو على الأقل إلى أوائل القرن العشرين. والخيار هنا بين
أحد أمرين:
إما أن تقوم الدولة بتوحيد المجتمع المنقسم إلى مذاهب
وقبائل ومناطق متناحرة (بفعل العقائد التكفيرية والتفسيقية)، على أسس التعددية
والانفتاح والانتماء الوطني، فتخلق بذلك ثقافة المواطنة والتساوي في الحقوق
والواجبات أمام مؤسسات دولة القانون.
أو تتعرّض الدولة، ومعها الكيان نفسه، إلى خطر التفسخ،
لأنها لن تكون قادرة بعد حين على الإيحاء بأنها تلعب دور "الوسيط" مع
السلفية القروسطية التي فشلت فشلاً ذريعاً في بناء انتماء وطني توحيدي حقيقي في
البلاد. وهذا أمر بات ينتمي إلى المستقبل القريب لا البعيد بحفز من التغيرات
الهائلة التي حدثت في العالم والشرق الأوسط غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 وتطورات
الربيع العربي.
قد يقال هنا أن الدولة غير قادرة على فك عرى تحالفها
التاريخي مع "الشيخ"، لأن ذلك قد ينسف أحد ركيزتي شرعية
"الأمير". بيد أن هذا أصبح قولاً مردوداً الآن، لأن "الخصوصية
السعودية" تستطيع التحالف مع صيغة سلفية معتدلة وأكثر انفتاحاً وعصرية.
فالسلفية، كما هو معروف، متعددة المنابع والاجتهادات والألوان، وهي ليست حكراً لا على
غلاة المؤسسة السلفية المهيمنة راهناً ولا بالطبع على السلفيين الجهاديين.
هذا علاوة عن أن الإسلام المعتدل والمنفتح في السعودية
بالذات، بات مطلباً إقليمياً ودولياً، لما لهذه الدولة من تأثير ضخم على باقي
مجريات الأحداث في العالم الإسلامي برمته.
-
III -
عودة إلى المرأة السعودية لنقول أن التطورات الاقتصادية
والسياسية والتعليمية في المملكة، بدأت تدفع سهم التاريخ في اتجاهها.
وفي حال استمر تقدم المرأة السعودية، وإن ببطء، على هذه
الجبهات، فلن يكون من المغالاة في شيء القول أن تطور الدولة والمجتمع السعوديين
نحو التحديث السياسي وصولاً في خاتمة المطاف نحو الدستورية الديمقراطية، سيكون
بقيادة المرأة، أو على الأقل بحفز من مسيرتها نحو التحرر.
ولاعجب. فالمرأة التي تهز سرير الطفل بيمينها قادرة على
هز العالم بيسارها، كما كان يردد نابليون بونابرت.
سعد محيو