I
وراء المشهد الذي يبدو فيه ظاهرياً أن ثمة دولاً-
أمماً إقليمية حديثة (تركيا، السعودية، إيران) تتصارع على "ملء الفراغ
النسبي" الذي خلفته الولايات المتحدة غداة حربي العراق وأفغانستان، ثمة مشهد
آخر قد يكون أكثر واقعية وأقرب إلى الحقيقة.
مشهد يظهر فيه أربعة "خلفاء" إسلاميون
جدد، يدّعي كلً منهم أنه أمير كل المؤمنين، ويحمل كلٌ منهم عتاده الإيديولوجي
والفقهي الذي يُفترض أن يؤهله لحمل صولجان الخلافة، أولاً في الشرق الأوسط الكبير
الإسلامي، وربما لاحقاً في بقية أرجاء العالم الإسلامي.
الخليفة الأول، "الشيخ المجاهد أمير المؤمنين
أبو بكر البغدادي الحسيني القرشي"، هو الأوضح
والأصرح بين هؤلاء الخلفاء الأربعة. فهو وقف في الجامع الكبير في الموصل ليعلن
زعامته على أمة المسلمين بقوة السيف، ونسب آل البيت القرشي، و"الفتوحات"
الكاسحة التي حققتها قواته في العراق وسورية.
وعلى رغم أن أبو بكر لم يأت بشيء
جديد على صعيد الفقه الإسلامي، خاصة منه فقه إبن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، أي
إيديولوجيا المملكة االسعودية نفسها، إلا أنه يريد بناء دولة إسلامية وهابية جديدة
"نقية" لا إزدواجية فيها (كما في السعودية) بين الدين والدولة. دولة
قروسطية تدير ظهرها بالكامل للعصور الحديثة بكل مضامينها القيمية والاجتماعية
والسياسية، ماعدا أعتدة الحرب الحديثة. دولة تيمم وجهها، بالكامل أيضاً، نحو بعث
ماضٍ سحيق، يتحكّم فيه الأموات بحياة الأحياء وسلوكياتهم وكل أنماط معيشتهم، وفي
مقدمها فرض القيود المطلقة على المرأة، وحقوق الفرد، وبالطبع الحريات الليببرالية.
الخليفة أبو بكر، بهذا المعنى، هو
الانبعاث الجديد لحركة الأخوان السعودية الذين تصدى لهم االملك عبد العزيز، بضغط
من البريطانيين، بسبب إصرارهم على تطبيق كل تعاليم الوهابية بحذافيرها، وفي مقدمها تضخيم المسائل الفرعية
إلى درجة التكفير واتهامات الفسق، وإعمال السيف في رقاب من يعتبرونه خارجاً عن
دعوة التوحيد. أبو بكر يعيش بعقله وقلبه
في أوائل القرن الرابع عشر وأواخر القرن الثامن عشر مع ابن تيمية ومحمد بن عبد
الوهاب، لكن فارق أنه على عكس الأول الذي قال أنه "رجل ملّة لا رجل
دولة"، وعلى عكس الثاني الذي وعد محمد بن سعود بأن يكون "إماماٌ يجمع
عليه المسلمون وذريتك من بعدك" إذا اتبع تعاليمه، يريد أن يكون رجل ملّة
ودولة في آن. فهل ينجح؟
II
أمامه ثلاث عقبات كأداء: الأولى،
أن يُقنع الناس بالتوقف عن مشاهدة التلفزيون وارتياد دور االسينما، وعدم الاستماع
إلى الأغاني والموسيقى، ومنع بناتهم من التعليم واخفائهم تحت سطح الأرض إن إمكن،
وارتداء الملابس الباكستانية السوداء. وأيضاً إطاعة "أولي الأمر" من
مشايخ ومطاوعة من دون نقاش أومساءلة، واعتبار الحريات الشخصية كفراً والديمقراطية
زندقة، وقطع كل/وأي علاقة مع "الكافرين" الذين هم كل من يرفض تعاليم
تنظيم الدولة الإسلامية، بمن فيهم بالطبع غالبية السنّة "المرتدين"
والشيعة والدروز والمسيحيين العرب والغربيين والبوذيين والهندوس والطاويين..ألخ.
بكلمات أوضح: سيكون على الخليفة
البغدادي أن يقنع الناس بأنهم يتوهمون أنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فيما
الحقيقة أنهم موجودون في القرن الرابع عشر على مرأى ومسمع ورقابة شيخ البغدادي
الجليل ابن تيمية. وهذه بالتأكيد مهمة شاقة لهذا الخليفة الذي سيّتهم سريعاً بأنه
"غير راشد".
االعقبة الثانية تأتي من أصحاب
القرار الدولي. وهنا ليس المقصود مغول القرن الرابع عشر الذين واجههم ابن تيمية،
بل هكسوس القرن الحادي والعشرين، من أميركا وأوروبا إلى جماعة البريكس (البرازيل،
روسيا، الصين، الهند وجنوب إفريقيا) . من دون موافقة هذه الذئاب الحديثة على قيام
دولة الخلافة أو على الأقل سكوتهم عنها، ستكون أول خطبة للخليفة البغدادي في
الموصل آخر خطبة له أيضا.
العقبة الأخيرة هي وجود الخلفاء
الثلاثة الآخرين: علي (أية الله الخامنئي) وعبد الله (الملك السعودي) ورجب طيب
(أردوغان)، الذين قد يتوحدون في لحظة ما ضد أبو بكر، على رغم خلافاتهم العميقة.
فهم أيضاً لهم طموحات خليفية (من
خليفة) وإن لم تحمل هذا المسمى.
الخليفة أردوغان أفصح عن هذا
الطموح عبر خيار العثمانية الجديدة، أو العمق الاستراتيجي لتركيا الذي أفاض داوود
أوغلو في التنظير له. كما نشطت مراكز الأبحاث التركية لتسويق الخلافة العثمانية
دولياً على أنها صيغة جديدة وحضارية ومتطورة لإسلام متصالح مع الغرب والعصر
والديمقراطية.
هذا الخيار كان يُفترض أن يتجسّد سريعاً على أرض
الواقع، لولا أن حلفاءه الإخوان المسلمين في مصر لم يسيئوا التصرف بالسلطة، أو
لولا أن الخليفة السعودي لم يتصدى بعنف لمشروعه الطموح وأعلن الحرب الضروس عليه وعلى حلفائه
الإخوان في كل أنحاء المنطقة.
لكن هذه لم تكن نقطة الضعف الوحيدة
في مشروع الخلافة العثمانية الجديدة الضمنية. سلوكيات الخليفة رجب في الشؤون
الإقليمية، أوحت لكثير من الاتباع المُفترضين في المنطقة بأن هذه الخلافة ليست في
الواقع أكثر من طفرة زائدة أخرى في القومية التركية. هذا علاوة على أن الظهير الدولي
الرئيس للخلافة العثمانية الجديدة، الولايات المتحدة، ترددت في التدخل لانقاذ
المشروع، حين انقضت عليه في مصر السعودية والمؤسسة العسكرية المصرية. وهذا ماحوّل
رجب الآن إلى خليفة من دون خلافة.
III
الخليفة الثالث، الملك عبد الله، ليس
دخيلاً أو مستجدا كما الباقين على مشروع إمامة المسلمين. فالمملكة السعودية، ومنذ
نشأتها على الأسس الوهابية، تعتبر نفسها مركز العالم الإسلامي دينياً، ثم زعيمته
السياسية بعد انتاج النفط، ثم قائدته السنّية مع صعود القوة الشيعية في إيران
العام 1979. وبالتالي، ما كان يفعله الملك عبد الله طيلة السنوات الأخيرة ليس
المطالبة (الضمينة مجددا) بالخلافة، فهي موجودة أصلا، بل الدفاع عنها في وجه
منافسيها الجدد. والواقع أنه نجح حتى الآن في تسجيل نقاط عدة لصالحه في هذا
المجال، خاصة بعد أن رد نصل الإخوان المسلمين إلى نحرهم في مصر واليمن وبقية الدول
العربية.
لكن الخلافة السعودية عرضة الآن
إلى الخطر من طرفين: خلافة أبو بكر التي تستقطب العديد من الشبان السعوديين الذين
تخرجوا من المدارس الوهابية نفسها في المملكة، الأمر الذي قد يخل على نحو خطير
قريباً بالتوازن الدقيق الذي أقامه السعوديون بين الدين والدولة، وبين الدولة
والمجتمع. والطرف الثاني هو الولايات المتحدة التي لاتزال تصر على أن المصدر
الإيديولوجي لكل الفكر الأصولي المتطرف في العالم الإسلامي هو نفسه الفكر الوهابي،
أي الركيزة الشرعية اليتمية للنظام السعودي. وهذا أصلاً مادفع واشنطن إلى محاولة
التراجع عن صفقة التحالف التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفت العام 1946
(والذي استمر بلا انقطاع حتى أحداث سبتمبر 2001)، واستبداله بالتحالف مع الإخوان
المسلمين وتركيا وقطر.
كلا هذين العاملين يأكلان الآن من
رصيد الخلافة السعودية ويضعانها في موقف حرج، خاصة في مواجهة الخلافات الأخرى.
خلافة الخليفة الرابع والأخير، أي
أية الله علي خامنئي، والذي اعتبر الدستور زعامتها للأمة الإسلامية حصيلة طبيعية
لولاية الفقيه، عانت منذ البداية من الهزال بسبب صبغتها الطائفية الشيعية الواضحة
والعلنية. وهذا ماجعل كل سياسات إيران المنفتحة على الجماهير السنّية في الشرق
الأوسط وعلى قضية تحرير فلسطين، تصطدم
بالعلاقة المختلة حالياً بين الأكثرية السنّية والأقلية الشيعية في العالم.
وجاءت أزمة سورية، التي دعمت فيها
إيران الإسلامية، من موقع شيعي صرف، نظاماً قمعياً بالغ العنف ضد شعبه، لتحرم
خلافة علي خامنئي من كل المنجزات السابقة الخاصة بمقارعة إسرائيل ودعم القضية
الفلسطينية، في الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد الإيراني يتراقص على شفير الهاوية،
أساساً بسبب الأكلاف الباهظة لسقطته في سورية.
والحصيلة أن الخليفة خامنئي يقف
الآن من دون ورقة توت إيديولوجية ذات صدقية في بلاط الخلافات المتصارعة على زعامة
العالم الإسلامي.
* * *
أربعة خلفاء، إذاً، يتنازعون الآن
الشرق الأوسط الإسلامي. كل منهم يحمل سيفه الإيديولوجي السماوي الخاص، وأيضاً
مشاريعه الأرضية الجيو- سياسية الخاصة. أي: أربع طبعات خلافة إسلامية متناقضة،
ومتصارعة، ومتحاربة، لن تسفر في نهاية المطاف سوى عن تأبيد الحروب والانفجارات
الأهلية الراهنة، بل ربما حتى أيضاً عن تسديد رصاصة الرحمة إلى صدع الحضارة
الإسلامية التي كانت تقود العالم في مرحلة ما في كل مجالات العلم والتكنولوجيا
والطب والفلك.. والروحانية الصوفية الرائعة.
حصيلة حزينة حقاً.
سعد محيو