هل يخرج أوباما بطل سلام أو استسلام؟
( ينشر هذا المقال في موقع "سويس انفو"
الالكتروني: http://www.swissinfo.ch/ara)
هل سيخرج الرئيس الأميركي
باراك أوباما من أتون الصفقة النووية مع إيران بطل سلام، كما يعتقد هو ومساعدوه
وأنصاره، أم رمزاً للاستسلام مثله مثل البريطاني نيفيل تشامبرلين الذي أبرم صفقة
ميونيخ "الاستسلامية" مع هتلر العام 1938، كما يقول خصومه الجمهوريون
والإسرائيليون والخليجيون؟
السؤال مهم الآن، لأن
الشهرين المقبلين سيشهدا معارك في داخل أميركا (الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث)
وخارجها (من تل أبيب وموسكو وبيجينغ إلى الرياض وأنقرة والقاهرة) حول شخصية أوباما
وفلسفته في السياسية الخارجية ومآل مثل هذه الفلسفة. وهي معارك استقطابية حامية
الوطيس في الواقع، ستتراقص خلالها التقييمات حول سجل أول رئيس أسود في التاريخ
الأميركي بين قطبي السذاجة والغباء، أو الذكاء الحاد والعبقرية.
لكن، ولكي نضع هذه النقاشات
الحادة في سياقاتها الموضوعية قبل أن نصل إلى الاستنتاجات حول محصلاتها المحتملة
المتعلقة بإرث أوباما، ثمة حاجة أولاً للتطرق إلى الفلسفة التي بنى عليها هذا
الأخير صرح سياساته الخارجية طيلة السنوات السبع الماضية.
فلسفة أوباما
أول من وصف فلسفة أوباما في
السياسة الخارجية بأنها "مبدأ أوباما"، كان الكاتب الأميركي إي. جي
ديون. كتب في 16 نيسان/إبريل 2009 في "واشنطن بوست": هذا المبدأ هو شكل
من الواقعية لايخشى استخدام القوة الأميركية، لكنه يحرص على أن يأخذ هذا الاستخدام
بعين الاعتبار الحدود العملية لهذه القوة،
وأن يترافق مع حقنة من السلوكيات الذاتية الواعية".
الأولوية القصوى لهذه
الواقعية هي الدبلوماسية، وليس العمل العسكري كما كان الأمر مع "مبدأ بوش
وتشسيني. وهو أمر أفصح عنه أوباما باكراً حتى قبل أن يصبح رئيسا. فخلال السجالات
التلفزيونية بين المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، سئل أوباما هل هو مستعد للتفاوض
مع قادة دول على عداوة أو خصومة مع الولايات المتحدة، فأجاب من دون تردد:"
أجل. وبلا شروط أيضا".
وعشية تربعه على عرش البيت
الأبيض كرئيس العام 2009، حدد أوباما سياسته الخارجية بالنقاط الآتية:
-
تحقيق "نهاية مسؤولة للحرب في العراق، وإعادة
التركيز على الشرق الأوسط الأوسع.
-
بناء جيش أميركي للقرن الحادي والعشرين، مع إبداء الحكمة
في استخدامه.
-
بذل جهد عالمي لضمان، وتدمير، ووقف انتشار أسلحة الدمار
الشامل.
-
إعادة بناء التحالفات والشراكات الأميركية، الضرورية
لمواجهة التحديات والتهديدات المشتركة، بما في ذلك الاحترار العالمي.
-
الاستثمار في "إنسانيتنا المشتركة"، من خلال
المساعدات الخارجية ودعم أسس الديمقراطية المستدامة، بما في ذلك السلطة التشريعية
القوية، والقضاء المستقل، وحكم القانون، والمجتمع المدني الحيوي، والصحافة الحرة،
وقوة الشرطة النظيفة".
هذه التوجهات الخارجية "الموزونة" والحذرة تخدم في الواقع، وحرفاً
بحرف، السياسات الداخلية لأوباما، التي تمحورت (وفق تعبير أوباما نفسه) حول:"
إحياء الاقتصاد (الأميركي) وتوفير العناية الصحية للجميع، وتعزيز التعليم الرسمي
وأنظمة الضمان الاجتماعي، ووضع خطة دقيقة للاستقلال في مجال الطاقة ومواجهة مخاطر
تغيُّر المناخ".
ويعترف أوباما بأنه استقى مبدأه من فلسفة المفكر اللاهوتي الأميركي رينولد
نيبوهر (1892-1971)، الذي أثّر أيضاً على مروحة واسعة من السياسيين والمخططين
الاميركيين على غرار الرئيس السابق كارتر، ومارتن لوثر كينغ، وهيلاري كلينتون،
وهيوبرت همفري، ودين أتشيسون، ومادلين أولبرايت، وجون ماكين وغيرهم.
نيبوهر طوّر ما أسماه "الواقعية المسيحية"، ورفض بقوة النزعة
المثالية الطوباوية "لأنها غير فعالة في التعاطي مع الحقيقة". كتب في
العام 1944:" إن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديمقراطية ممكنة، لكن ميل
الإنسان إلى الظلم، تجعل الديمقراطية ضرورية".
"واقعية"
نيبوهر هذه تطورت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية، مادفعه إلى مغادرة معسكر
السلام الذي كان يتزعم وبات من أشد داعمي "الحروب العادلة" والتصدي بقوة
للشيوعية. كما تخلى عن أرائه الاشتراكية السابقة، لكنه شدد على ضرورة موازنة النمو
الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية.
.. والواقعية
اللادبلوماسية
ويبدو واضحاً الآن أن
أوباما طبّق تعاليم هذ اللاهوتي بحذافيرها، في السياستين الداخلية ( الضمان الصحي،
ومحاولة الموازنة بين النمو الاقتصادي والضمانات الاجتماعية) والخارجية (الواقعية
والبرغماتية، من دون التخلي عن فلسفة القوة).
مايهمنا هنا هو هذه
السياسة الخارجية، والتي تجلّت واقعيتها ليس فقط في الصفقة الإيرانية، بل أيضاً في
إبرام الصلح مع كوبا الشيوعية بعد 57 عاماً من المواجهات، ومد اليد إلى
"الحضارة الإسلامية"، كما فعل في خطابي اسطنبول والقاهرة، واتفاقية
التجارة مع 11 دولة في حوض الباسيفيك، والعمل مع الصين على تقليص مخاطر تغيُّر
المناخ.
لكن، في مقابل هذه
الواقعية الدبلوماسية، كان أوباما ينتقل إلى الواقعية اللادبلوماسية، حين تصدى
بقوة لتدخل روسيا في أوكرانيا وأدان خرق هذه الأخيرة لاتفاقية الحد من انتاج
الصواريخ متوسطة المدى. كما لم يخف رغبته في دفع النظام الروسي إلى الإفلاس من
خلال العمل (مع السعودية) على خفض أسعار النفط بشكل هائل، واستنزاف القدرات
الاقتصادية الروسية في أوكرانيا والقوقاز الإسلامي وسورية.
هذه بعض ملامح فلسفة
أو مبدأ أوباما. وكما هو واضح، ليس في هذه التوجهات مايوحي بأن الرئيس الأميركي
تخلى عن أهم مباديء السياسة الخارجية الأميركية التي كانت راسخة منذ زهاء قرنين من
الزمن، وهي العمل على تغيير الأنظمة التي تعتبرها الولايات المتحدة خطراً عليها:
من تدمير النظامين الألماني والياباني خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية،
إلى تغيير النظام السوفييتي ثم إسقاط امبراطوريته العام 1991. كل ما هناك أن
أوباما يحاول أن يحقق عبر الدبلوماسية ما يمكن انجازه عبر الحرب.
وهو عبّر عن هذا
التوجه بقوله:" الدبلوماسية ليست كاملة ولاتعطينا كل مانريد. لكن مافي وسعنا
عمله هو أن نستخدم هذه الدبلوماسية للعمل على تشكيل الأحداث وفق مصالحنا".
وهذا يعني، بالنسبة
إلى الصفقة النووية الإيرانية، أن هدف الواقعية الأوبامية النهائي ليس فقط منع
إيران من حيازة الأسلحة النووية، بل أيضاً وبالدرجة الأولى تغيير سلوكيات النظام
الإيراني. فهل ينجح؟
التحدي الكبير
هذا الآن هو التحدي
الكبير الذي تواجهه فلسفة أوباما. فإذا ما نجحت "الواقعية الدبلوماسية"
في تحقيق الهدف الأميركي الرئيس في تغيير السلوكيات الإقليمية (وليس فقط النووية)
الإيرانية، سيدخل أوباما التاريخ كبطل للسلام والوفاق الدوليين، كما دخله الرئيس
نيكسون بتوقيعه "الصفقة التاريخية" مع الزعيم الصيني ماوتسي تونغ.
أما إذا ابتلع
الإيرانيون طعم الاتفاق النووي ولم يعلقوا بالسنارة الأميركية، أي إذا ماحصلوا على
المزايا الاقتصادية الضخمة لهذا الاتفاق وواصلوا سياساتهم الإقليمية
"الامبراطورية"، فسيتهاوى كل صرح مبدأ أوباما الواقعي، وسيخرج هذا من
التاريخ بدل الدخول إليه.
حتى الآن، يبدو أن
القيادة الإيرانية تحاول أن تتجنب بقدر الإمكان هذه السنارة. فمرشد الثورة أيه
الله خامنئي أعلن قبل أيام أن الصفقة النووية "لن توقف مقاومة إيران للولايات
المتحدة وإسرائيل، ولن تدفعها إلى التخلي عن حلفائها في سورية واليمن والعراق
ولبنان". هذا في حين كان قادة الحرس الثوري (وهو القوة الأولى الحقيقية في
البلاد) يجهرون برفضهم لهذا الاتفاق الذي مّس، برأيهم، الخطوط الحمر الإيرانية (أي
سيادة البلاد واستقلالها).
بيد أن هذه التوجهات
التصعيدية الإيرانية متوقعة في الواقع، بسبب تعدد مواقع السلطة وتنوعها في إيران،
من جهة، ولأن الصفقة النووية تفرض بالفعل قيوداً مؤلمة على السيادة الإيرانية، من
جهة أخرى. لكن هذا شيء، واندفاع إيران إلى خرق شروط الصفقة شيء آخر، لأن ما في
الميزان هو بقاء أو انهيار الاقتصاد الإيراني برمته بفعل العقوبات الدولية
والانهاك والاستنزاف الإقليميين.
وهذا بالتحديد مايراهن
عليه "الشيطان الأكبر" أوباما: أي استخدام جزرة الاقتصاد لدفع إيران إلى
تغيير جلدها الإديولوجي والإقليمي.
واستناداً إلى نجاح أو
فشل هذا الرهان خلال السنة المتبقية من عهد أوباما، سيتحدد مصير إرث هذا الرئيس
البراغماتي: إما نيكسون المنتصر أو تشامبرلين المهزوم.
سعد محيو