للاشتراك في المدّونة، لطفاً ضع عنوانك الالكتروني هنا

الأحد، 13 أبريل 2014

العرب والعولمة (3): مَنْ إلى الجحيم: نحن أم العولمة؟


- I -
أشرنا بالأمس إلى أن ثمة فريقاً ثالثاً إما أنه يرفض العولمة جملة وتفصيلاً، أو أنه يدعو إلى عولمة يسارية بديلة، أو على الأقل يدعو إلى  كبح جموح "البريرية النيو- ليبرالية" (كما يسميها)، عبر أنسنتها وإصلاحها.(*)
المفكر الماركسي البارز سمير أمين كان من أوائل من دعا ليس إلى رفض العولمة وحسب، بل أيضاً إلى "الانفكاك عنها" كوسيلة وحيدة لتجنب شرورها وكوارثها الاجتماعية والانسانية والبيئية. كما أنه دعا إلى تأسيس "الأممية الخامسة" لتحقيق هذا الغرض.
منذ صدور دعوة أمين هذه،  بتنا نشهد إنشاء وتطور فضاءات بديلة للتضامن الاقتصادي في العالم، وراحت تزدهر تجارب اقتصاد تضامني في مجتمعات صغيرة على شكل نظم تبادل من خارج قنوات النظام الاقتصادي المتعولم السائد. حنى أن هذه النظم ابتكرت أنظمة عملة موازية بين اعضائها.(أطلق على هذه الحركة اسم "ممارسات الانشقاق الاقتصادي: الشبكات المتمردة والابداع الاجتماعي"). ذلك هو الفكر الاقتصادي المتمرد الذي  تسوده الاخلاقيات والقيم الانسانية. رجال ونساء هربوا من العولمة الشافطة واستقلوا.
بعد موقف سمير أمين، كرت السبحة.
فالمفكر شوماخر، صاحب نظرية "الصغير جميل"، قال أن الوسيلة الأمثل للتصدي للعولمة النيوليبرالية، هي استخدام تكنولوجيات وسيطة متوسطة الحجم بحيث تصبح في متناول الانسان خاصة في العالم الثالث. وروبرت هيلبرون بشَّر بانحطاط حضارة الاعمال، فيما شدد جوزف شومبيتر على أن  الرأسمالية ستؤدي إلى مأزق وجودي خطير.
كل هؤلاء أبرزوا مخاطر الاستهلاك وكوارث "ثقافة" شركات الاعلان الكبرى التي تساعد ليس فقط على انتشاره (الاستهلاك)، بل أيضاً على خلق ما أسموه  "الجماهير الاصطناعية"، أي تلك التي تخلق لها العولمة سلعاً استهلاكية ليست في حاجة إليها، بحيث يتحول الناس إلى آلات عمياء لاستهلاك أشياء وآراء سياسية دوغمائية. ويرى الفيلسوف الفرنسي بودريار، على سبيل المثال، أن  الاستهلاك الذي تروٍّج له العولمة بعيد كل البعد عن أن يكون بيئة تساعد على ازدهار الكوسموبوليتية الكونية في الاخلاق والفلسفة الاخلاقية التي نادى بها كانط والديانات الكبرى. لا بل هي أحدثت فراغاً في المجال الاجتماعي والمثل العليا الاجتماعية، وافرغت الوجود الانساني من معناه بتركيزها على حفز استهلاك أكثر المنتجات تفاهة.
بذور هذا الانقلاب كان جلياً في تحوّل الاقتصاد السياسي إلى "علم" يقوم على الرياضيات. ومثل هذا التحول سيزيل تدريجياً  الذاكرة والثقافة والاخلاق والقيم: ويحوّل البشر والاقتصادات إلى علم خاص بالنيوليبرالية وظيفته انتاج تنتج ديكتاتورية السوق العالمي الخالي كلياً من الضوابط، مثلها مثل ديكتاتورية البروليتاريا.
وهكذا، فإن علماء الاقتصاد باتوا جزءاً من شبكات أنواع جديدة من السلطة العابرة للحدود القومية. وقد أخذت هذه السلطة المتعولمة تنتظم على مراحل من خلال بنية قوية، هرمية وأفقية تدعمها بيروقراطية ضخمة. عناصر هذه السلطة إضافة إلى الاقتصاديين: مراكز الأبحاث، وكبار الموظفين في الدول القومية والمؤسسات الدولية، والأكاديميين، وصانعي القرار في وسائل الاعلام وقادة كبريات بعض المنظمات الانسانية غير الحكومية. كل هؤلاء شكلوا "جيوشاً صغيرة" تعمل في خدمة العولمة في كل أنحاء العالم وفق انضباطية هرمية. وهي جيوش تضم ملايين الاشخاص الذين يتصرفون كجنود طائعين.
ويرى د. جورج قرم أن "تكاثر المعازل في المدن الكبرى للاثنيات المختلفة، أثبت فشل العولمة إلا في اوساط النخبة التابعة لها. وبهذا المعنى كانت العولمة بحق نتاج حضارة امبراطورية تحمل ماضي الامبراطوريات الاستعمارية وماضي الولايات المتحدة وبدرجة أقل أوروبا".
- II -

بالاضافة إلى التيار الرافض كلياً للعولمة، والتي يعتبرها مجرد استمرار للامبريالية الغربية (التي أصبحت جماعية غداة الحرب الباردة)، هناك ثلاثة تيارات أخرى:
الأول، يُعتبر رفضاً للعولمة أقل مما هو رفض للنظام الرأسمالي: وهو تجديد للفكر الماركسي، وتمثله منظمة "أتاك" التي نشأت في فرنسا.
والثاني، موقف إصلاحي مرن راغب في تنظيم أفضل للأسواق العالمية.
 والثالث موقف إصلاحي واقعي ومثالي يطالب بعالم متعدد الاقطاب سياسياً، يكفل نهوض ممارسة ديمقراطية من قبل عولمة مسؤولة وأكثر انسانية اعتمادا على قانون أخلاقي.
بيد أن مفكرين بارزين أخرين مثل برتراند ميهوست (bertrand meheust  )  يعتبرون  أنه فات الاوان على انقاذ البشرية من مصير مأساوي لامفر منه، نظراً إلى  الدمار الذي أحدثه الرأسمالية في المحيط الحيوي. فـ"تليف الكبد النيوليبرالي"، على حد تعبيره، لا شفاء منه. وهذا مايراه أيضاً وليم غريدر الذي أعلن أن العولمة ستتسبب  بسلسلة كوارث رهيبة  ستلحق بالعالم قبل ان يتمكن الحس السليم من الانتصار.
وانضم إلى هذا الركب فرانسوا بارتان الذي شدد على أن التنمية في إطار العولمة "عبث وجنون إذا اخذنا في الاعتبار المشكلات البيئية. والمأزق سيدفع البشر إلى البحث عن معنى آخر للحياة".
- III-
مَنْ الأقرب إلى الدقة والصحة من هذه التيارات؟ وأين المنطقة العربية منها؟
(غدا نتابع)
(*) تفاصيل هذه المواقف من العولمة، مبثوثة في كتاب المفكر العربي البارز  د. جورج قرم الاخير بعنوان " حكم العالم" ، الذي اعتمدنا عليه في هذا المقال. وسنقوم قريباً باستعراض هذا الكتاب بالغ الأهمية.

سعد محيو










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق