الحضارة
الاسلامية بين الحوار أو الانتحار
لم يعد الأمر مستعصياً على
الفهم:
|
العالم الإسلامي، بكل دوله
وكياناته ومؤسساته وحركاته السياسية والفكرية، دخل في حالة حرب مع ذاته: حرب
تصطرع فيها الهويات، والمفاهيم، والطموحات الامبراطورية، ويتقاطع فيها ما هو
محلي مع ماهو جيوسياسي وإقليمي ودولي. هي حرب عامة وشاملة بهذا المعنى
داخل الدول الإسلامية، وبين بعضها البعض.
|
في الحلقة الرابعة في هذه
المدونة، " تحدثنا عن عن
احتمال وجود مخطط، أو "مؤامرة" لتفتيت المنطقة والمضاعفات المحتملة
لذلك. في هذه الحلقة، الخامسة والأخيرة، سنبحث ما إذا كان لهذه المخططات
التقسيمية فرص نجاح ما:
|
-
- I
مشاريع الدويلات المذهبية والطائفية التي بدأت
تشق طريقها رويداً رويدا نحو التنفيذ، لن تنجح حيث فشل ما هو أكثر تجذراً منها في
التاريخ والاجتماع العربيين. فلا هي ستكون قادرة، مهما فعلت، على تجنُّب الحروب
الدائمة بين بعضها البعض، ولا على إقامة (كما ألمعنا في الحلقات السابقة)
طبعتها الخاصة من الدولة- الأمة، ولا على توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني
والاستراتيجي.
وحتى لو نجحت هذه الدويلات في البقاء، في ظل إعادة
انتاج صيغ الحماية الدولية على الأرجح، ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى البحث عن صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة
لها، سواء في شكل نظام إقليمي مشرقي جديد، أو حتى في شكل تكتلات إقليمية.
في مرحلة ما أيضاً، حين ستوغل الهويات ماقبل الوطنية
في المشرق في تغوّلها وتوحشها وحروبها، وفي اسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة
بفعل استتباعها لإرادة وأوامر السيِّد الدولي الجديد، ستبرز مرة أخرى، وبقوة،
الحاجة الماسة إلى أنموذج فكري – استراتيجي جديد، يستند إلى القيم الروحانية في
الأديان التوحيدية الثلاثة، وإلى التعاون والتضامن الإقليمي المشرقي، بوصفه المنقذ
الوحيد من جهنم حروب الدمار الشامل، وبكونه الجامع المشترك الأول بين مكونات
مجتمعات المشرق.
فحين تتكشف أمام أفراد "الهويات القاتلة"
ماقبل الوطنية والقومية أي أتون جهنمي دخلوا فيه؛ وحين يشعرون بالتعب من الحروب
العبثية والقتل والدمار الشامل، وحين يبدأون بتلمّس الاثمان الباهظة للغاية للصفقة
الفاوستية مع القوى الخارجية؛ وحين تتقطع بهم سبل الأمن والعيش، سيجدون أن المنقذ
الوحيد من الضلال هو هذا الأنموذج الفكري- الاستراتيجي الجديد في المشرق، التعاوني
والروحاني (في مقابل التكلّس الديني العصبوي) والمسالم.
هذه اللحظة
ستأتي أيضاً حين تصل السعودية وإيران وتركيا والأكراد إلى حالة الانهاك، أو حين
تصل ألسنة اللهب التقسيمية الطائفية والإثنية إلى عقر دارها (وهي ستصل حتما)،
فتتوقف عن استخدام/ وإشعال الورقة المذهبية في المنطقة كعنصر أساسي في سياستها
الخارجية، سواء الثورية أو المحافظة، وتبدأ البحث عن القواسم المشتركة لأمن مشترك،
واقتصاد مشترك، ونظام إقليمي مشترك في الإقليم، ونزعة روحانية- ثقافية مشتركة.
-
- II
ثم أن هذه اللحظة ستأتي بفعل التغيرات الكبرى
المرتقبة في النظام الدولي.
إذ يبدو واضحاً الآن أن العولمة، وعلى رغم كونها ذات
طبعة نيوليبرالية أميركية، لاتهتم بوجود "القومية الأميركية" على عرش
هذه الامبراطورية، ولايهمها لون قطة النظام العالمي طالما أنها تصيد فئران الأرباح
والأسواق المفتوحة أمام شركاتها العملاقة.
الدول الكبرى الأخرى، التي تعرف ذلك، والتي بدأت تشم
روائح الانحدار الأميركي حتى في ذروة صعود العولمة الجديدة وانتصار الولايات
المتحدة في الحرب الباردة، بدأت بالفعل تعيد النظر بأجنداتها وتخطيطاتها في
السياسة الخارجية. لا بل بدأ بعضها ينتقل في هذا المجال من التخطيط إلى التنفيذ:
-
فاليابانيون، على سبيل المثال، بدأوا يفكرون بإقامة روابط أوثق مع أوروبا.
- والهند واليابان تدرسان بلورة تعاون استراتيجي
عسكري بينهما (ضد الصين).
- وروسيا تعد الخطط لإعادة الهيمنة على مناطق
الاتحاد السوفييتي السابق، وربما أيضاً على بعض دول أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى
وبعض دول الشرق الأوسط.
- وأوروبا المتشظية هذه الأيام، تشهد اندفاعة من
دولها الرئيسة في هذا الاتجاه. فألمانيا وإيطاليا تغازلان روسيا لأهداف اقتصادية
في الدرجة الأولى (احتكار عملية تحديث الجغرافيا الروسية الشاسعة) واستراتيجية في
الدرجة الثانية. وبريطانيا تخطط للابتعاد عن البر الأوروبي والاقتراب أكثر من
الشواطيء الأطلسية الأميركية.
أما الصين، وعلى الرغم أنها ستصبح أكبر اقتصاد في
العالم العام 2025 (في حال استمرت وتائر نموها الراهن)، فهي لاتزال حتى الآن تمارس
سياسة "الصبر التاريخي"، بانتظار أن تسقط ثمرة الزعامة الأميركية في حضنها.
ما سيتحكَّم بكل هذه التطورات، برأي زبغنيو بريجنسكي،
ليس "التناغم الدولي" الذي تطرحه الصين الآن كإديولوجيا لسياستها
الخارجية (إنطلاقاً من فلسفات التاو وبوذا وكونفوشيوس)، بل الصراعات العنيفة بين
كل هذه الدول الصاعدة، على الموارد الطبيعية (النفط والماء أساسا)، والهيمنة
الإقليمية، والدور العالمي (وإن في الإطار العام للعولمة). لا بل لايستبعد
المحللون نشوب حروب مدمّرة بين الصين والهند واليابان، على غرار الحروب الانتحارية
التي وقعت في لججها الدول القومية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين وأدّت
إلى انحدار أوروبا التاريخي.
-
- III
هذه اللوحة الدولية الجديدة المحتملة قد تقلّص إلى حد كبير من قوة
القبضة الغربية الخانقة، والمتواصلة منذ حرب 1967، على المشرق (خاصة على مصر)،
وستوفّر ذلك النوع من الفرصة الدولية (في إطار نظرية الفراغ الدولي) التي وضعها د.
جلال أمين كشرط لازب لأي نهضة جديدة للحضارة الاسلامية.
هذه نقطة.
وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية: إقليم المشرق يمثّل
وحدة جغرافية- إيكولوجية متكاملة. وهذه حقيقة باتت في غاية الأهمية والخطورة الآن،
لأن الكوكب الأزرق ككل يشهد خللاً خطيراً في توازناته البيئية، ولأن أمنّا الأرض
لم تعد تحتمل العربدة الأجرامية الراهنة التي يرتكبها بعض البشر بحقها، والتي
تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الملّوثة للجو والمدمّرة للبيئة وماتبقى من الزرع
والشجر والمياه الجوفية. مثل هذه الأسلحة تستعمل الآن بلا أي رادع في كل أنحاء
المنطقة، في وقت يتغيّر فيه مناخ الأرض بسرعة غير مسبوقة. وهو تغيّر كان أصلاً (كما
أشرنا) أحد الأسباب الرئيسة لاندلاع العديد من الثورات مؤخراً في بعض البلدان
العربية، خاصة في سورية والعراق واليمن وحتى في مصر. ومما يفاقم من هذه الأزمة
الإيكولوجية، الانفجار الديموغرافي المنفلت من عقاله هو الآخر، والذي يفرض (بسبب
عدم اتساقه مع التخطيط التنموي الاقتصادي- الاجتماعي ) ضغوطاً هائلة على البيئة.
إقليم المشرق يحتل حالياً المرتبة الأولى في العالم
من حيث المناطق المهددة بنضوب المياه الكافية لشعوبه فيها. وحروبه الراهنة التي
تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الكيميائية والإشعاعية تُمعن تخريباً بما ماتبقى من
مياه جوفية وتربة صالحة للحياة.
الأزمة البيئة توحّد هذا الأقليم الآن، ولكن بطريقة
دفعه بشكل مشترك إلى الهاوية. فكما أن اهتزاز جناحي فراشة بأكثر من اللازم في
كاليفورنيا قد يتسبب بزلزال في اليابان، كذلك بات تغيّر المناخ وتلوث البحار
والمياه والأجواء في أي بلد في منطقتنا، معظوفاً عليه ضغوط اللاجئين
والديموغرافيا، يؤدي إلى كوارث متصلة في بقية بلدان المنطقة.
هذه المخاطر البيئية الجامحة، إضافة إلى حروب الدمار
الشامل الأهلية الراهنة وضرورات التكامل الاقتصادي في ظل العولمة، يفرض على أي
توجّه انقاذي جديد أن يطرح صيغة لتعاون إقليمي مع شعوب المنطقة من عرب أتراك
وإيرانيين وأكراد؛ على أن يكون هذا التعاون بقيادة جماعية ( وليس بتفرّد عثماني
جديد، أو إسلامي- فارسي مُستجد، أو حتى قومي عربي مُنبعث، أو بالطبع طموحات امبريالية
توسعية إسرائيلية).
في إطار حل إقليمي، أو نظام إقليمي، من هذا النوع،
يمكن مثلاً للأكراد (الذين هم الآن لغم التقسيم الرئيس في المنطقة) أن يحققوا
طموحاتهم القومية، من دون "حروب استقلال" قد تكون عبثية مع تركيا وإيران
والعراق وسورية. كما يمكن لكل الأطراف العربية والتركية والإيرانية القيام بأدوار
تكاملية بدل الانسياق إلى مجابهات إقليمية مستنفزة ومدمِّرة. لا بل يمكن في هذا
الإطار العثور على حل لـ"المسألة اليهودية" بعيداً عن المشاريع
الانتحارية الصهيونية
***
أشرنا في كل الحلقات
الرابعة السابقة إلى أن منطقة المشرق دخلت بالفعل مايمكن أن يكون بالفعل حرب
الثلاثين عاما. ومؤشرات هذه الحقيقة واضحة وجلية في الدمار الشامل الآن في سورية
والعراق واليمن والسودان، وربما قريباً في كل دول المنطقة.
بيد أن الحرب الكارثية ليست
حتمية، إلا بالقدر الذي ننغمس فيها من دون محاولة الخروج، وسريعاً، من جحيمها.
بكلمات أوضح: الخيار هنا هو
بين الانتحار الجماعي للقارة الاسلامية (وللحضارة الاسلامية) برمتهما وبين البقاء
والاستمرار. إنه في الواقع والحقيقة خيار حقيقي بين الجنّة وجهنم. بين الحياة
والموت. وخريطة الطريق المؤدية إلى كلٍ منهما أكثر من جاهزة، وهما تتلخصان في جملة
يتيمة واحدة: الحوار أو الانتحار.
(انتهى)
سعد محيو