المشهد كان يُفترض أن يكون عادياً: مجموعة من المعارضين السوريين في لبنان، يقيمون حفلاً لدعم الانتفاضة السورية، تضمن عروضاً راقية من فنون الرقص والتمثيل والاشرطة السنيمائية لمخرجين سوريين كبار مثل عمر أميرالاي.
لكن الصورة لم تكن عادية في الواقع. السبب؟ طبيعة المكان الذي عقد فيها الحفل: مداخل الضاحية الجنوبية من بيروت التي تعتبر المعقل الرئيس لحزب الله اللبناني، أو حتى عاصمته، التي توجد فيها مقراته العسكرية وهياكله المدنية والسياسية. وبالتالي، كان مستحيلاً أن يتمكّن المعارضون السوريون من القيام بتظاهرتهم الفنية والثقافية من دون الموافقة التامة للحزب.
صحيح أن أنصار النظام السوري نظّموا تظاهرة مضادة، بالطبل والزمر وصور الرئيس بشار الأسد، في الشارع المقابل مباشرة للمسرح الذي جرى فيه الحفل الفني المعارض، إلا أن هذا لم يؤد لا إلى فض الحفل ولا إلى إسقاط المضمون الرمزي للحدث، وهو أن حزب الله وافق للمرة الأولى على السماح للمعارضة السورية بالتحرّك داخل "مجاله الحيوي".
حرج إيراني
بالطبع، وبسبب العلاقة الاستراتيجية والإديولوجية الوثيقة بين حزب الله وبين إيران، دلّ هذا التطور على وجود تبدُّل أيضاً في الموقف الإيراني: من الدعم المطلق للنظام السوري واعتبار الانتفاضة جزءاً من "مؤامرة إمبريالية" ضده، إلى اتخاذ موقف أكثر توازناً نسبياً إزاء كلٍ من المعارضة والنظام.
دوافع هذا التحوّل واضحة: شعور طهران بالحرج الشديد من عجز الرئيس الأسد عن احتواء الانتفاضة سواء بالقوة أو عبر الإصلاحات الطفيفة، ولذا فهي تحاول الآن القيام بخطوات تكتيكية للحد من الخسائر الفادحة التي لحقت بصورتها وسمعتها في سوريا وبقية المنطقة العربية من جراء دعمها العلني والسري المطلقين للنظام السوري.
أولى هذه الخطوات تمثّلت في استقبال طهران لممثلين عن المعارضة السورية، في مسعى واضح للقيام بوساطة ما بين النظام والمنتفضين عليه، ثم في البيانات الصريحة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي تحدث عن الحاجة إلى "إصلاحات ضرورية" في سوريا، ولوزير الخارحية الإيراني علي أكبر صالحي الذي دعا الأسد إلى "الاستجابة لمطالب شعبه الشرعية".
ويقول مسؤول إيراني سابق (فايننشال تايمز- 16 أيلول/سبتمبر الحالي):" إيران لاترى مناصاً من دعم الإصلاحات في سبيل شراء الوقت وكي لاتبدو أنها تقف ضد الرأي العام العربي". وهذا رأي يحظى بتأييد المحللين السياسيين في المنطقة، الذين يقولون أن الانتفاضة السورية كشفت عن تناقضات فاقعة في موقف إيران من ثورات الربيع العربي. إذ هي أشادت بهذه الثورات لكونها (كما قال مرشد الثورة خامنئي) "يقظة إسلامية تستوحي ثورة إيران العام 1979". لكن، حين تعلّق الأمر بسوريا، تراجعت طهران عن هذا التوصيف واعتبرت الثورة السورية "مؤامرة خارجية هدفها دعم إسرائيل".
هذا الموقف ضعضع إلى حد بعيد النفوذ السياسي والاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط العربي، الذي لم تحققه طهران إلا بشق النفس على مدى العقدين الماضيين وبتكلفة مالية واقتصادية باهظة، ودفع المنتفضين السوريين إلى طرح شعارات علنية تندد بإيران وحسن نصر الله زعيم حزب الله وتتهمهما بدعم النظام سياسياً وحتى بالرجال والعتاد.
.. وانقلاب دولي
بالطبع، هذا التغيّر في موقف إيران لن يؤد بأي حال من الأحوال إلى تخلّيها عن مواصلة دعم النظام السوري حتى الرمق الأخير، ولا حتى إلى تأييد إصلاحات ديمقراطية جذرية في سوريا قد تؤدي في خاتمة المطاف إلى تنحية الأسد بالطرق السلمية. إذ أن ذلك سيعني خسارة الركيزة الاستراتيجية الأولى للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
ومع ذلك، هذا التطور الإيراني يوضح مدى عمق ورطة النظام السوري، حيث أن أقرب حلفائه غير قادر لا على تغطية نظريته حول كون الانتفاضة مؤامرة خارجية ولا على دعم أسلوبه الدموي العنيف في قمع الثورة الشعبية الذي أدى حتى الآن إلى مصرع نحو 2600 شخص وإصابة عشرات الآلاف بجروح، هذا ناهيك عن عشرات آلاف المعتلقين في سجون أقيمت على عجل في طول البلاد وعرضها.
وجنباً إلى جنب مع هذا الحدث الإيراني، كان النظام الدولي يشهد تطوراً لايقل خطورة لغير صالح النظام السوري. فقبل أشهر قليلة فقط، كان التباين واضحاً وجلياً في موقفي الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة من التطورات في بلاد الشام. إذ أن الاولى كانت تدعو إلى الدفع باتجاه ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة بين النظام السوري وبين المعارضة، فيما الثانية كانت تحث على ممارسة كل أنواع الضغوط على هذا النظام للعمل إما على تغيير سلوكه أو حتى تغييره هو نفسه.
بيد أن هذا التباين تبدد مؤخراً، وظهر بدلاً منه إجماع أوروبي- أميركي هو الأول من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة، يدعو إلى ممارسة "الدبلوماسية القسرية" بدلاً من "الدبلوماسية اللطيفة" في مقاربة النظام السوري وبقية الأنظمة العربية.
ويوضح المحلل الاميركي الإيراني الأصل راي تقية أن هذا الإجماع "يعني أننا ربما دخلنا في عصر جديد حيث الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوروبيون يمكنهم تحقيق أهدافهم القصوى في الشرق الأوسط من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية، وحتى من دون استخدام القوة العسكرية" في بعض الاحيان.
ويوضح تقية طبيعة هذا الإجماع كالتالي: فيما كانت الولايات المتحدة تقبل الحاجة إلى إئتلافات دولية للتعاطي مع المشاكل الإقليمية، كان يبرز على المسرح قادة أوروبيون على غرار الرئيس الفرنسي ساركوزي يرون أن الإغراءات المالية والكلمات المعسولة لن تغيِّر شيئاً من سلوكات الأنظمة السلطوية والإديولوجيات المتطرفة".
وهذا موقف عززته إدارة أوباما واسندته إلى المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، المحاكم الدولية، منظمات حقوق الإنسان العالمية، ألخ).
هذه الوحدة الغربية المستجدة عجَّلت، وستعجل أكثر، في سقوط الأنظمة السلطوية العربية عبر وسيلتين إثنتين: قطع الصنابير الاقتصادية والسياسية عنها، والتهديد في كل حين باستخدام القوة العسكرية (كما في ليبيا) إذا ما قررت هذه الأنظمة استخدام كل أذرعها العسكرية ضد شعوبها المنتفضة.
روسيا والصين
هذا عن الأوروبين والأميركيين في النظام الدولي. فماذا عن الصين وروسيا؟
قد لاتكون هاتان الدولتان مسرورتين بهذا التطابق الوفاقي المستجد بين أوروبا وأميركا، لكنهما ستكونان محكومتين بمماشاته أو على الأقل بعدم الاصطدام به. وهذا يصح على وجه الخصوص بالنسبة إلى الصين، على رغم صعودها الكاسح إلى قمرة القيادة العالمية وعلى رغم مصالحها النفطية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا. إذ أن بكين تعي تماماً الدور المركزي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسواق العالمية، وتعطيه الأولوية القصوى على أي علاقات لها مع الأنظمة السلطوية العربية. فلون القطة، كما اعتاد مهندس النهضة الصينية الراهنة دنغ هسياو بينغ، ليس هاماً طالما أن هذه القطة تصيد الفئران (وهي هنا المصالح الاقتصادية الصينية).
وروسيا قد لاتكون بعيدة عن الصين في هذا المضمار. فهي أيضاً، على سبيل المثال، فضَّلت مصالحها الاقتصادية مع فرنسا على علاقاتها التاريخية مع نظام القذافي في ليبيا. وعلى رغم أن موسكو تدعم بقوة الآن النظام السوري، الذي وفّر لها نقطة ارتكاز عسكرية بحرية في ميناء اللاذقية، ولاتزال تحميه من قرارات مجلس الأمن، إلا أنها لن تكون قادرة على تبرير العنف الذي يمارسه هذا النظام ضد شعبه طويلاً في المحافل الدولية، هذا ناهيك عن عدم وجود مصلحة اقتصادية أو حتى استراتيجية لها في تحدي الإجماع الأوروبي- الأميركي الراهن حيال تطورات الشرق الأوسط.
كل ما هناك أن روسيا ستحاول من الآن فصاعداً لعب دور أكبر في سوريا (عبر محاولة الوساطة بين النظام والمعارضة)، ثم توظيف ذلك في لعبة موازين القوى مع الأوروبيين والأميركيين. إذ من السذاجة الاعتقاد بأن موسكو قد تقدّم للغرب جلد الدب السوري مجاناً أو بأسعار رخيصة.
العين والمخرز
ماذا تعني كل هذه التطورات بالنسبة إلى النظام السوري؟
وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، رد في وقت مبكر على هذا السؤال بالقول أن النظام السوري قادر على تناسي وجود أوروبا على الخريطة.
حسناً. ربما كان هذا ممكنا. لكن التناسي شيء والنسيان شيء آخر. فالتناسي فعل إرادي، فيما النسيان قد يكون مرضاً خطيرا. وهذا يصح على وجه الخصوص في ما يتعلّق بوجود أوروبا ليس فقط على الخريطة بل أيضاً بوصفها الشريك التجاري الأكبر لسوريا في العالم، والطرف الوحيد القادر على إخراجها من عزلتها الدولية.
والآن، وبعد ولادة "الوفاق" الأوروبي- الأميركي الجديد، ومع الابتعاد التدريجي للصين وروسيا عن سوريا، ومع حرج إيران ودخول تركيا القوي على خط الدعوة إلى تغيير النظام السوري، سيكتمل الطوق الاقتصادي والسياسي والأخلاقي حول رقبة النظام السوري، وقد نشهد قريباً نتيجة لذلك بدء تفكك الطبقة الحاكمة السورية وتزايد وتائر الانشقاقات في الجيش السوري. لا بل يذهب راي تقية إلى حد القول بأن النظام السوري برمته قد ينهار فجأة.
توقعات في محلها؟
أجل. فالعين، حتى لو كانت ثاقبة، لاتستطيع أن تقاوم مخرز هذا الضغط الدولي (والإقليمي)الهائل، في الوقت نفسه الذي تفقد فيه هذه العين القدرة على مشاهدة مايجري فوق 180 ألف كيلومتر مربع هي مساحة سوريا.
سعد محيو- بيروت